للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان وصول خبر سرية الرجيع وبئر معونة في يوم واحد، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حزنا شديدا عليهم لم يخفف منه إلا أنهم شهداء عند ربهم يرزقون، ولقد بلغ حزن النبي عليه الصلاة والسلام أنه مكث شهرا يدعو في صلاة الصبح على رعل وذكوان وعصية الذين غدروا بالقراء. وروى البخاري أن النبي لما نعى القراء قال: «إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربّنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك، ورضيت عنا، فأخبرهم عنهم، فأنزل الله فيهم قرانا كان يتلى: بلّغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا» ، ثم نسخ بعد «١» .

[وقفة عند سرية الرجيع وبئر معونة:]

وإنّ لنا لوقفة ترينا كيف يستهين الإيمان بالكثرة حينما قاتل بضعة نفر غرباء عن ديارهم مائتي رجل في عقر دارهم، وكيف يسمو الإيمان عن الضعف والاستخذاء والترخص ويأبى إلا العزيمة. فقد كان يمكن لزيد وخبيب أن يظهرا كلمة الكفر، أو أن ينالا من النبي وقلبهما مطمئن بالإيمان، ليكون سببا في نجاتهما من القتل والصلب، ولكن أولي العزائم الثابتة، والعقائد الصادقة، يأبون إلا أن يموتوا أبطالا كما عاشوا أبطالا.

ولو أن خبيبا المأسور ليقتل بعد أن غدروا به قتل الغلام ثأرا من أهله لما كان أمرا مستنكرا، فهو مظلوم انتصر لنفسه، ولكنه الخلق الإسلامي الأصيل، والقلب المؤمن، والضمير الحي تترفع بصاحبها عن الغدر والغيلة حتى ولو كان على سبيل المجازاة، وأن يؤخذ الغلام بجريرة أهله. وإن هذه المعاني الشريفة لتستشفها في قولة خبيب للجارية: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك!!

وكنا نحب من المستشرقين الذين أسرفوا في القول من أجل أسيري بدر اللذين قتلا أن نسمع لهم كلمة في قتل الأسيرين المؤمنين على فرق ما بين الموقفين، وفي قتل من قتل غدرا وغيلة في سريتي الرجيع وبئر معونة، ولكن الأمر كما قيل:


(١) صحيح البخاري- كتاب المغازي- باب سرية الرجيع وبئر معونة.

<<  <  ج: ص:  >  >>