وما بعدها، ولكان النظم مفككا، والكلام متناقضا، وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون وهم أهل اللّسن والفصاحة، وأصحاب عقول لا يخفى عليها مثل هذا، ولا سيما أعداؤه الذين يتلمسون له العثرات والزلات، فلو أن ما روي كان واقعا لشغب عليه المعادون له، ولارتد الضعفاء من المؤمنين، ولثارت ثائرة مكة، ولاتخذ منه اليهود بعد الهجرة متكأ يستندون إليه في الطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم والتشكيك في عصمته، ولكن شيئا من ذلك لم يكن.
ووجه ثالث: وهو أن بعض الروايات ذكرت أن فيها نزل قوله تعالى:
وهاتان الايتان تردّان الخبر الذي رووه لأن الله ذكر أنهم كادوا يفتنونه، ولولا أن ثبّته لكاد أن يركن إليهم، ومفاده أن الفتنة لم تقع وأن الله عصمه وثبته حتى لم يكد يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون فضلا عن الركون، فالأسلوب القراني جاء على أبلغ ما يكون في تنزيه ساحته صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون، بل افترى بمدح الهتهم، وهذا ينافي ما تدل عليه الاية، وهو توهين للخبر لو صح، فكيف ولا صحة له؟ ولقد طالبته صلّى الله عليه وسلّم ثقيف وقريش إذا مر بالهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، وما كان ليفعل.
وإذا كانت القصة غير ثابتة من جهة النقل، وهي مخالفة للقران، ولما قام عليه الدليل العقلي، فلا جرم أن التحقيق يدعونا إلى أن نصدع بأن حديث الغرانيق مكذوب اختلقه الزنادقة الذين يريدون إفساد الدين، والطعن في سيد الأنبياء وإمام المخلصين.