للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ليجعل ما يلقي الشيطان في سبيل دعوات الأنبياء فتنة لضعفاء الإيمان، ومرضى النفوس، وقساة القلوب الذين لا يعتبرون ولا يتعظون وهم المجاهرون بالكفر، أو ليعلم الذين أوتوا العلم وكشف الله الحجب عن بصائرهم أن ما جاء به الرسل هو الحق من ربهم فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

الثاني: أن المراد بالتمني القراءة «١» ، ولكن الإلقاء ليس بالمعنى الذي أراده المبطلون مما رووه وهو إجراء الشيطان الباطل على لسان النبي، ولكن الإلقاء بمعنى إلقاء الأباطيل والشبه فيما يتلوه عليهم النبي مما يحتمله الكلام، ولا يكون مرادا للمتكلم، أو لا يحتمله، ولكن يدّعي أن ذلك يؤدي إليها، وذلك من شأن المعاجزين الذين دأبهم محاربة الحق يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، ونسبة الإلقاء للشيطان على هذا بمعنى أنه المتسبب والملقي لهذه الشبهات في نفوس أتباعه، ويكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حدّث قومه عن ربه، أو تلا عليهم وحيا أنزله الله لهدايتهم قام في وجهه مشاغبون يتقوّلون عليه ما لم يقله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وينشرون ذلك بين الناس، ولا يزال الأنبياء والمرسلون يجالدونهم ويجاهدون في سبيل الحق حتى ينتصر، فينسخ الله ما يلقي الشيطان من شبه، ويثبت الحق، وقد وضع الله هذه السنة في الخلق ليتميز الخبيث من الطيب، فيفتتن ضعفاء الإيمان الذين في قلوبهم مرض، ويتمحص الحق عند أهله وهم الذين أوتوا العلم فيعلموا أنه الحق، وتخبت له قلوبهم، ويستمر عليه سلوكهم وعملهم.

وقد ذكر البخاري في صحيحه هذين المعنيين للتمني، وبدأ بالأول، وثنّى بالثاني، بل ذكره بصيغة التضعيف «٢» ، ونقل الأول عن ترجمان القران ابن عباس، وعلى تفسيره للتمني فالاية لا تمت بصلة ما إلى ما رواه المبطلون، وقد بيّنا على التفسير الثاني أنها لا تدل أيضا على ما ذكروه.


(١) ومما يدل على هذا قول حسان في عثمان:
تمنّى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل
(٢) صحيح البخاري- كتاب التفسير- باب تفسير سورة الحج.

<<  <  ج: ص:  >  >>