مِنَ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَحَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، فَالصَّابِئُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَجُوسُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ، وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، غَيْرَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُحَدِّثُونَ، وَلَكِنَّهُ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَيُقَالُ: إِنِ الْفَرِيقَيْنِ كَانَا أَهْلَ كِتَابٍ، فَفَقَدُوهُ بِطُولِ الْأَمَدِ.
وَهَذَا مَا كُنْتُ أَعْتَقِدُهُ قَبْلَ أَنْ أَرَى فِيهِ نَقْلًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِنَا وَعُلَمَاءِ الْمِلَلِ وَالتَّارِيخِ
مِنَّا، وَذَكَرْتُهُ فِي الْمَنَارِ غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ (الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ) لِأَبِي مَنْصُورٍ عَبْدِ الْقَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيِّ (الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٤٢٩) فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ: " إِنَّ الْمَجُوسَ يَدَّعُونَ نُبُوَّةَ زَرَادُشْتَ، وَنُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - وَالصَّابِئِينَ يَدَّعُونَ نُبُوَّةَ (هَرْمَسَ) وَ (وَالِيسْ) (وَدُورِيتُوسَ) وَ (أَفْلَاطُونَ) وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَسَائِرُ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مُقِرُّونَ بِنُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الَّذِينَ أَقَرُّوا بِنُبُوَّتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْوَحْيَ شَامِلٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ عَنْ عَاقِبَةِ الْمَوْتِ، وَعَنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَجَنَّةٍ وَنَارٍ يَكُونُ فِيهِمَا الْجَزَاءُ عَنِ الْأَعْمَالِ السَّالِفَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ.
وَقَدْ نَشَرْنَا فِي فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ سُؤَالًا مِنْ جَاوَهْ عَنْ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمَةِ كَالْوَثَنِيَّةِ الصِّينِيَّةِ، وَأَجَبْنَا عَنْهُ بِمَا نَصُّهُ (ص ٢٦١) .
ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمَةِ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى حِلِّ الزَّوَاجِ بِالْكِتَابِيَّةِ وَحُرْمَةِ الزَّوَاجِ بِالْمُشْرِكَةِ، وَيُرِيدُونَ مِنَ الْكِتَابِيَّةِ: الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَأَحَلَّ بَعْضُهُمُ الْمَجُوسِيَّةَ أَيْضًا، وَبِالْمُشْرِكَةِ: الْوَثَنِيَّةَ مُطْلَقًا، بَلْ عَدُّوا جَمِيعَ النَّاسِ وَثَنِيِّينَ مَا عَدَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُمْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ لَقَبُ الْمُشْرِكِينَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَمَا يَذْكُرُ أَهْلَ الْأَدْيَانِ يَعُدُّ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا صِنْفًا، وَأَهْلَ الْكِتَابِ صِنْفًا آخَرَ يَعْطِفُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَكَذَا الْمَجُوسُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
وَالَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِ الْمُشْرِكِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ، بَلْ كَانُوا أُمِّيِّينَ.
وَالْأَصْلُ فِي الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ آيَتَانِ فِي الْقُرْآنِ ; إِحْدَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (٢: ٢٢١) الْآيَةَ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (٥: ٥) وَقَدْ زَعَمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute