مَنْ حَرَّمَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّاتِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِتِلْكَ، وَرَدُّوهُ
بِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْمَائِدَةِ مُخَصِّصَةً لِآيَةِ الْبَقَرَةِ، مُسْتَثْنِيَةً أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ عُمُومِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ نَصٌّ مُسْتَقِلٌّ فِي جَوَازِ التَّزَوُّجِ بِنِسَائِهِمْ.
وَقَدْ سَكَتَ الْقُرْآنُ عَنِ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي حُكْمِ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ لَهُمْ كِتَابٌ أَوْ شُبْهَةُ كِتَابٍ ; كَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، وَمِثْلُهُمُ الْبُوذِيُّونَ وَالْبَرَاهِمَةُ وَأَتْبَاعُ (كُونْفُوشْيُوسَ) فِي الصِّينِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا الَّذِينَ حَرَصَ بَعْضُهُمْ عَلَى إِدْخَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ، لَا يَتَرَدَّدُونَ فِي إِدْخَالِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّفْرِقَةِ وَالْمُغَايَرَةِ، فَكَمَا غَايَرَ الْقُرْآنُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (٩٨: ١) وَقَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا (٣: ١٨٦) وَذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِقِسْمَيْهِمْ فِي مَعْرِضِ الْمُغَايَرَةِ فِي قَوْلِهِ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى (٥: ٨٢) الْآيَةَ، كَذَلِكَ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ وَعَدَّهُمْ صِنْفَيْنِ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٢٢: ١٧) فَهَذَا الْعَطْفُ فِي مَقَامِ تَعْدَادِ أَهْلِ الْمِلَلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ طَائِفَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، لَيْسَتَا مِنَ الصِّنْفِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْكِتَابُ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا إِلَهِيَّةٌ، وَلَكِنْ بُعْدُ الْعَهْدِ وَطُولُ الزَّمَانِ جَعَلَ أَصْلَهَا مَجْهُولًا لَنَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الْمُرْسَلِينَ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٣٥: ٢٤) وَقَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (١٣: ٧) وَإِنَّمَا قَوِيَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِأَنْبِيَائِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا
يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٥٧: ١٦) وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِسْقَ الْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ هِدَايَةِ كُتُبِهِمْ، وَدُخُولَ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالشِّرْكِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يَسْلُبْهُمُ امْتِيَازَهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَدَّهُمْ صِنْفًا آخَرَ، كَمَا أَنَّ فِسْقَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَدُخُولَ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الصِّنْفِ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُسْلِمِينَ وَلَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَعْنِيهِمُ الْخُطَبَاءُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute