عَلَى الْمَنَابِرِ بِقَوْلِهِمْ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَيُطَبِّقُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: " فَمَنْ؟ " وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ حَاوَلُوا إِدْخَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَتَحْرِيمَ التَّزَوُّجِ بِنِسَائِهِمْ ; مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ اتِّخَاذِهِمْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ: سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩: ٣١) فَإِنَّ إِطْلَاقَ اللَّقَبِ عَلَى صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ، لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ صِنْفٍ آخَرَ لَهُ فِيهِ إِنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِثْلُ فِعْلِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ (٢: ٢٢١) لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى الصِّنْفِ الْآخَرِ لَيْسَ هُوَ أَخَصَّ صِفَاتِهِ، وَلَيْسَ عَامًّا شَامِلًا لِأَفْرَادِهِ ; كَاتِّخَاذِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا يَتَّبِعُونَهُمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ وَصْفَهُمُ الْأَخَصَّ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ كَثِيرِينَ مِنْهُمْ يُخَالِفُونَ رُؤَسَاءَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمِنْهُمُ الْمُوَحِّدُونَ كَأَصْحَابِ (آرْيُوسَ) عِنْدَ النَّصَارَى، وَقَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِيهِمُ الْمُوَحِّدُونَ الْقَائِلُونَ بِنُبُوَّةِ الْمَسِيحِ بِسَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِي أُورُبَّةَ وَأَمِرِيكَةَ، وَكَانُوا قَلُّوا بِاضْطِهَادِ الْكَنِيسَةِ لَهُمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْقَدِيمَةِ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَرَاهِمَةَ وَالْبُوذِيِّينَ وَأَتْبَاعَ كُونْفُوشْيُوسَ ; لِأَنَّ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ أَوَّلًا ; لِمُجَاوَرَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْعِرَاقِ وَالْبَحْرَيْنِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرْحَلُونَ إِلَى الْهِنْدِ وَالْيَابَانِ وَالصِّينِ فَيَعْرِفُوا الْآخَرِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ حَاصِلٌ بِذِكْرِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْمِلَلِ الْمَعْرُوفَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِغْرَابِ بِذِكْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ فِي عَصْرِ التَّنَزُّلِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْأُخْرَى، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَيْضًا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَا يَقْبَلُونَهَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَقَبِلُوهَا مِنَ الْمَجُوسِ فِي الْبَحْرَيْنِ وَهَجَرَ وَبِلَادِ فَارِسَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى أَخْذَ النَّبِيِّ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ شَهِدَ لِعُمَرَ بِذَلِكَ عِنْدَمَا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِيهِ، وَرَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ كَلِمَةِ " أَهْلِ الْكِتَابِ " عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ لِتَحَقُّقِ أَصْلِ كُتُبِهِمَا وَلِزِيَادَةِ خَصَائِصِهِمَا، لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَهْلُ كِتَابٍ غَيْرَهُمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute