بِالْقِسْطِ. كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَ لَقَبِ " الْعُلَمَاءِ " عَلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَّاسِ لَهَا مَزَايَا مَخْصُوصَةٌ، لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْعِلْمِ فِيهِمْ وَسَلْبَهُ عَنْ غَيْرِهِمْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْمُنْتَقَى: " وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: (سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ) عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ " مَا نَصُّهُ: لَكِنْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ، كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ كِتَابٍ يَدْرُسُونَهُ وَعِلْمٍ يَقْرَءُونَهُ، فَشَرِبَ أَمِيرُهُمُ الْخَمْرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا أَهْلَ الطَّمَعِ فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ يُنْكِحُ أَوْلَادَهُ بَنَاتِهِ، فَأَطَاعُوهُ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ، فَأُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ وَعَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أَبْزَى: لَمَّا هَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ فَارِسَ قَالَ عُمَرُ: اجْتَمِعُوا - أَيْ قَالَ لِلصَّحَابَةِ اجْتَمَعُوا لِلْمُشَاوَرَةِ، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ وَالْفَرِيضَةُ اللَّازِمَةُ - فَقَالَ: إِنِ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنَضَعُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَلَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَوَضَعَ الْأُخْدُودَ لِمَنْ خَالَفَهُ. فَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: لَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ وَرُفِعَ لِرَفْعِ حُكْمِهِ، لَمَا اسْتُثْنِيَ حِلُّ
ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ تَبَعًا لِلْأَمْرِ الْوَارِدِ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَقْتَضِي حَقْنَ الدَّمِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُحْتَاطُ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. اهـ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِنَبِيِّنَا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِنَا، وَلَا جَمِيعَ مَنْ عَدَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْهُمْ، فَهَذَا نَقْلٌ صَحِيحٌ فِي الْمَجُوسِ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالًا لِجَعْلِ لَفْظِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ خَاصًّا بِوَثَنِيِّي الْعَرَبِ، وَأَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيُقَاسُ عَلَيْهِمْ مَنْ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ لَا يُعْرَفُ أَصْلُهَا، وَلَكِنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْآدَابِ وَالشَّرَائِعِ ; كَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ قَتَادَةُ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ فِي الْآيَةِ: الْعَرَبُ. كَمَا سَيَأْتِي.
وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (٢: ٢٢١) نَصًّا قَاطِعًا فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الصِّينِيَّاتِ الَّذِي أَكْثَرَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الصِّينِ، وَانْتَقَلَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ إِلَى جَاوَهْ أَوْ كَادَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الصِّينِ، وَلَا أَدْرِي مَبْلَغَ أَثَرِهِ فِي ذَلِكَ عِنْدَكُمْ (الْخِطَابُ لِلْمُسْتَفْتِي) وَبِنَفْيِ كَوْنِهِ نَصًّا قَاطِعًا فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِحْلَالُهُ كُفْرًا وَخُرُوجًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا لَسَاغَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِكُفْرِ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْ مُسْلِمِي الصِّينِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute