قُرُونٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَاكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ؟ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْوَاهِيَةِ إِلَّا احْتِمَالُ نَقْلِ الْمُتَأَخِّرِ - وَهُوَ مُؤَلِّفُ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا - عَنِ الْمُتَقَدِّمِ - وَهُوَ بُطْرُسُ - لَكَفَى، وَهُمْ
جَازِمُونَ بِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَارِيخٌ صَحِيحٌ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا، بَلْ تَارِيخُ وِلَادَةِ إِلَهِهِمْ وَرَبِّهِمُ الَّذِي يُؤَرِّخُونَ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ خَطَأٌ، كَمَا حَقَّقَهُ يَعْقُوبُ بَاشَا أَرْتِينَ وَغَيْرُهُ.
وَنَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّنَا قَابَلْنَا بَيْنَ (٢ بط ١: ١٤) وَبَيْنَ (يو ٢١: ١٨) فَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِ بُطْرُسَ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ إِشَارَةً وَاضِحَةً إِلَى مَا ذَكَرَهُ يُوحَنَّا، فَعِبَارَةُ بُطْرُسَ الَّتِي سَمَّوْهَا شَهَادَةً لَهُ، هِيَ قَوْلُهُ: " عَالِمًا أَنَّ خَلْعَ سَكَنِي قَرِيبٌ، كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَيْضًا "، وَعِبَارَةُ يُوحَنَّا الْمَشْهُودُ لَهَا هِيَ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَبُطْرُسَ " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ، وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ، وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَكَ، وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لَا تَشَاءُ ".
فَمَعْنَى عِبَارَةِ بُطْرُسَ أَنَّهُ يَسْتَبْدِلُ مَسْكَنَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَرْحَلُ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَلِّمُهُمْ، وَمَعْنَى عِبَارَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ إِذَا شَاخَ وَهَرِمَ يَقُودُهُ مَنْ يَخْدِمُهُ، وَيَشُدُّ لَهُ مِنْطَقَتَهُ. فَإِنْ فَرْضَنَا أَنَّ بُطْرُسَ كَتَبَ هَذَا بَعْدَ يُوحَنَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَدْنَى شُبْهَةٍ عَلَى تَصْدِيقِ يُوحَنَّا فِي عِبَارَتِهِ هَذِهِ، فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِهِ فِي كُلِّ إِنْجِيلِهِ. فَمَا أَوْهَى دِينًا هَذِهِ أُسُسُهُ وَدَعَائِمَهُ!
ذَكَّرَنِي هَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَادِرَةً رُوِيَتْ لِي عَنْ رَجُلٍ هَرِمٍ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ (وَلَا أَذْكُرُ هَذَا الْوَصْفَ تَعْرِيضًا بِتَلَامِيذِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ) قَالَ: إِنَّ رَجُلًا غَرِيبًا مِنَ الدَّرَاوِيشِ عَلَّمَهُ سُورَةً لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ سِوَاهُمَا، إِلَّا أَنَّ خَطِيبَ الْبَلَدِ يَحْفَظُ مِنْهَا كَلِمَتَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى أَصْلِهَا، وَأَوَّلُ هَذِهِ السَّخَافَةِ، الَّتِي سَمَّاهَا سُورَةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِينَ الْمَدَدَا، عِنْدَ النَّبِيِّ أَشْهَدَا، نَبِيُّنَا مُحَمَّدَا، فِي الْجِنَانِ مُخَلَّدَا، إِجَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَا، بِنْتُ خَدِيجَةَ الْكُبْرَى، آلَتْ لَوْ يَا بَابَتِي يَا بَابَتِي عَلَّمَنِي كَلِمَتَيْنِ. . . إِلَخْ. وَالْكَلِمَتَانِ اللَّتَانِ يَحْفَظُهُمَا الْخَطِيبُ مِنْهُمَا هُمَا " فَاطِمَةُ الزَّهْرَا " وَ " خَدِيجَةُ الْكُبْرَى " عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، بَعْدَ التَّرَضِّي عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " وَارْضَ اللهُمَّ عَنْ أُمِّهِمَا فَاطِمَةَ الزَّهْرَا، وَعَنْ جَدَّتِهِمَا خَدِيجَةَ الْكُبْرَى ".
وَلَا يَخْفَى عَلَى الْقَارِئِ، أَنَّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَسْجَاعِ الْعَامِّيَّةِ، وَخُطْبَةِ خَطِيبِ الْبَلَدِ فِي تَيْنَكَ الْكَلِمَتَيْنِ أَظْهَرُ مِنْ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ رِسَالَةِ بُطْرُسَ وَإِنْجِيلِ يُوحَنَّا، بَلْ لَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَهَذِهِ الرِّسَالَةِ اتِّفَاقٌ مَا فِيمَا زَعَمُوهُ تَكَلُّفًا وَتَحْرِيفًا لِلْعِبَارَةِ عَنْ مَعْنَاهَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِاقْتِطَافِ أَغْنَاطْيُوسَ، وَبُولِيكْرِيسَ مِنْ رُوحِ هَذَا الْإِنْجِيلِ فَهُوَ
مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِ بِشَهَادَةِ بُطْرُسَ لَهُ، بَلْ أَضْعَفُ ; إِذْ مَعْنَى هَذَا الِاقْتِطَافِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ شَيْءٌ يَتَّفِقُ مَعَ بَعْضِ مَعَانِي هَذَا الْإِنْجِيلِ. فَإِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ فَهُوَ لَا يَدُلُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute