عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِهِمَا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْمَسِيحِ ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهُ، وَلَمْ يَعْزُوَا إِلَيْهِ شَيْئًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى، إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ كَالِاتِّفَاقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُطْرُسَ، مُقْتَبَسًا مِنْ كِتَابٍ آخَرَ، كَانَ مُتَدَاوَلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ التَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عِنْدَ بَعْضِ شُعُوبِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ يُوحَنَّا انْفَرَدَ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ (الْكَلِمَةِ) وَالْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ هَذَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ مُؤَلِّفِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) (٤: ١٧١) أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَهَذَا اللَّفْظَ مِمَّا أُثِرَ عَنِ الْيُونَانِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَبَحَثَ فِيهَا أَيْضًا (فِيلُو) الْفَيْلَسُوفُ الْيَهُودِيُّ الْمُعَاصِرُ لِلْمَسِيحِ. فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ (أَغْنَاطْيُوسَ) اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ وَذَكَرَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي لَا يَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى نَقْلِهَا عَنْ يُوحَنَّا، وَعَلَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا وَرِسَالَتَهُ وَرُؤْيَاهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْقَرْنِ الثَّانِي ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ الْأُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَدِينُ بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ قَبْلَ يُوحَنَّا وَقَبْلَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِذَا كَانَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ يُوحَنَّا عَنْ غَيْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَ؛ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ فِي الْمَعَانِي الْأُخْرَى، الَّتِي لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا يُوحَنَّا؟ .
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا النَّقْدِ الْوَجِيزِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بوستُ وَسَمَّاهُ كَغَيْرِهِ شَهَادَةً لِإِنْجِيلِ يُوحَنَّا لَيْسَ شَهَادَةً. وَإِنَّ مَا سَمَّيْنَاهُ شَهَادَةً فَلَا مَنْدُوحَةَ لَنَا عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا شَهَادَةُ زُورٍ، وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّ كِتَابَةَ هَذَا الْإِنْجِيلِ تُوَافِقُ سِيرَةَ يُوحَنَّا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهُوَ تَمْوِيهٌ، نَقَضُوهُ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَيْضًا، إِلَّا بِالْإِلْهَامِ ; إِذْ كُلُّ مُلْهَمٍ يَقْدِرُ بِإِقْدَارِ اللهِ الَّذِي أَلْهَمَهُ، وَلَيْسَ لِيُوحَنَّا عِنْدَهُمْ سِيرَةٌ تُثْبَتُ أَوْ تُنْفَى.
بَقِيَ اسْتِدْلَالُهُ الْأَخِيرُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ بِأَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَلَمِ يُوحَنَّا لَكَانَ الْكَاتِبُ لَهُ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْغِشِّ ; قَالَ: " وَهَذَا الْأَمْرُ يَعْسُرُ تَصْدِيقُهُ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يَغُشَّ الْعَالَمَ لَا يَكُونُ رُوحِيًّا ". . . إِلَخْ. فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يُنْبِئُ بِسَذَاجَةِ مَنِ اخْتَرَعَهُ وَنَقَلَهُ وَغَرَارَتِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِغَبَاوَتِهِمْ، أَوْ قَصْدِهِمْ مُخَادَعَةَ النَّاسِ.
وَبُطْلَانُهُ بَدِيهِيٌّ، فَإِنَّ الْكَاتِبَ لِلْمَعَانِي الرُّوحِيَّةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رُوحِيًّا، وَالْكَاتِبَ فِي الْفَضَائِلِ لَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا. وَقَدْ كَانَ فِي مِصْرَ كَاتِبٌ مَنْ أَبْلَغِ كُتَّابِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ، وَمَعَ هَذَا وَصَفَهُ بَعْضُ عَارِفِيهِ بِقَوْلِهِ: " إِنَّ حُرُوفَ الْفَضِيلَةِ تَتَأَلَّمُ مِنْ لَوْكِهَا بِفَمِهِ، وَوَخْزِهَا بِسِنِّ قَلَمِهِ ". وَإِنَّ الرُّوحَانِيَّةَ الَّتِي تَجِدُهَا فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيسِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَمِنَ الْأَفْكَارِ وَالصَّلَوَاتِ، لَهُوَ أَعْلَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute