مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. وَيَزْعُمُونَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غِشَّ النَّاسِ وَتَحْوِيلَهُمْ عَنِ التَّثْلِيثِ وَالشَّرَكِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ!
إِنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ الْأَخِيرَ الَّذِي سَلَكَهُ بوستُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ نِسْبَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا إِلَيْهِ يَقْبَلُهُ الْمُقَلِّدُونَ لِعُلَمَاءِ اللَّاهُوتِ عِنْدَهُمْ، بِغَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ، وَالنَّاظِرُ الْمُسْتَقِلُّ يَرَاهُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ ; لِأَسْبَابٍ، أَهَمُّهَا ثَلَاثَةٌ: (١) أَنَّهُ جَاءَ بِعَقِيدَةٍ وَثَنِيَّةٍ نَقَضَتْ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمُقَرَّرَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَجَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَسِيحُ بِأَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ، بَلْ لِيُتَمِّمَهُ، وَأَصْلُ النَّامُوسِ وَأَسَاسُهُ الْوَصَايَا الْعَشْرُ، وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا بِالْبَقَاءِ وَدَوَامِ الْبِنَاءِ، وَصِيَّةُ التَّوْحِيدِ.
(٢) مُخَالَفَتُهُ فِي عَقِيدَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ لِكُلِّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاعَتِهِ وَقَوْمِهِ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَهُ. (٣) مُخَالَفَتُهُ لِلْأَنَاجِيلِ الَّتِي كُتِبَتْ قَبْلَهُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا تَحَامِيهِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ، مِمَّا يُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ ; كَتَجْرِبَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَخَوْفِهِ مَنْ فَتْكِ الْيَهُودِ بِهِ، وَتَضَرُّعِهِ إِلَى اللهِ خَائِفًا مُتَأَلِّمًا ; لِيَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُمْ وَيُنْقِذَهُ مِنْهُمْ، وَصُرَاخِهِ وَقْتَ الصَّلْبِ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَسَالِيبَ الْأَنَاجِيلِ وَفَحْوَاهَا يَرَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا غَرِيبٌ عَنْهَا، وَيَجْزِمُ بِأَنَّ كَاتِبَهُ مُتَأَخِّرٌ، سَرَتْ إِلَيْهِ عَقَائِدُ الْوَثَنِيِّينَ، فَأَحَبَّ أَنْ يُلَقِّحَ بِهَا الْمَسِيحِيِّينَ.
وَنَقُولُ ثَالِثًا: إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مُوَافَقَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي لِهَذَا الْإِنْجِيلِ فِي رُوحِ مَعْنَاهُ يُعَدُّ شَهَادَةً لَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي؛ فَأَيْنَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِمَّا بَعْدَهُ، ثُمَّ تُبَيِّنُ لَنَا مَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اقْتَطَفُوا مِنْ رُوحِهِ؟ !
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (إِظْهَارَ الْحَقِّ) فَرَأَيْتُهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا
لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ يُوحَنَّا، الَّذِي هُوَ أَحَدُ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، بِعِدَّةِ أُمُورٍ: (مِنْهَا) أُسْلُوبُهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاتِبَ لَمْ يَكْتُبْ مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ، بَلْ يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ.
(وَمِنْهَا) آخِرُ فَقْرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ عَنْ أَحْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَقْوَالِهِ إِلَّا الْقَلِيلَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا يُوحَنَّا بِضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ كَتَبَ وَشَهِدَ بِذَلِكَ، فَالَّذِي يَنْقُلُ هَذَا عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَقُصَارَاهُ أَنَّهُ ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَتَبَهُ، فَحَكَاهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ فِي ضِمْنِ إِنْجِيلِهِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْأَصْلُ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ يُوحَنَّا كَتَبَهُ وَشَهِدَ بِهِ؟ وَكَيْفَ نَثِقُ بِنَقْلِهِ عَنْهُ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ، وَرِوَايَةُ الْمَجْهُولِ عِنْدَ مُحَدِّثِي الْمُسْلِمِينَ وَجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا أَلْبَتَّةَ!
(وَمِنْهَا) أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ النَّاسَ أَنْكَرُوا كَوْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ لِيُوحَنَّا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute