فَذَكَرَ الْوَصْفَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى الصِّفَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالصِّدْقُ وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ الصَّرِيحَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَةُ الْحِكْمَةِ وَسَائِرُ آيَاتِ الْجَزَاءِ وَالْآيَاتُ النَّافِيَةُ لِلْعَدْلِ وَالْفِدَاءِ، وَالْآيَاتُ النَّافِيَةُ لِمِلْكِ نَفْسٍ لِنَفْسٍ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي الْآخِرَةِ، تُؤَيِّدُ كُلُّهَا آيَةَ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَآيَاتِ النَّجْمِ وَغَيْرَهَا، وَتُبْطِلُ دَعْوَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ لِثَوَابِ عِبَادَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ الثَّوَابُ كَالْمَالِ يُوهَبُ لَكَانَ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَبِيعُونَ ثَوَابَ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلْأَغْنِيَاءِ، وَحَاشَ لِلَّهِ وَلِحِكْمَةِ
دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَعَمَلُ الْخَلَفِ وَحْدَهُ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ كَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِعَمَلِ أَوْلَادِهِ يُنَافِي الْقَاعِدَةَ الَّتِي ذَكَرْتَهَا فِي الْجَزَاءِ أَيْضًا، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَا تَطْبَعُهُ فِي النَّفْسِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ لَا يُزَكِّيهَا عَمَلُ أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ - قُلْنَا: نَعَمْ إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَكِنَّ مَنْ بِيَدِهِ أَمْرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ هَذَا الْأَصْلِ، لَا بَلْ أَلْحَقُ بِهِ شَيْئًا يَنْقُضُهُ وَلَا يَذْهَبُ بِحِكْمَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعُ بَعْضِ الْوَالِدَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ بِبَعْضِ عَمَلِ أَوْلَادِهِمْ، أَوْ جَعْلُهُ مِنْهُ بِالتَّبَعِ وَالسَّبَبِيَّةِ، كَمَا أَدْخَلَ فِي عُمُومِهِ انْتِفَاعَ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ بِعَمَلِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ أَوِ اقْتَدَى بِعَمَلِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ شَيْءٌ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ يُحْتَجُّ بِهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ "، وَفِي رِوَايَةٍ " وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ فَكُلُّوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ وَالِدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَالِهِ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ لَيْسَ أَعْيَانًا مَمْلُوكَةً لِلْعَامِلِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، بَلْ هُوَ جَزَاءٌ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَوْعَانِ (أَحَدُهُمَا) مَا يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ مُبَاشَرَةً وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا. (وَثَانِيهُمَا) مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَعَدَّى فِيهَا نَفْعُ الْعَامِلِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالسُّنَّةِ الْحَسَنَةِ وَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَالْعِلْمِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ الَّذِي يَدْعُو لَهُ، أَوْ يَقْضِي دَيْنَ اللهِ أَوِ النَّاسِ أَوْ يَتَصَدَّقُ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ تَكُونُ بِقَدْرِ انْتِفَاعِ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْعَامِلِ فِي السَّبَبِيَّةِ لَهَا عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ لِلسَّبَبِ، كَتَأْلِيفِ الْكِتَابِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ. وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضَاعِفَةُ اللهِ لِمَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute