للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيَشْمَلُ الْبَخْسَ فِي الْمُسَاوَمَةِ وَالْغِشَّ وَالْحِيَلَ الَّتِي تُنْتَقَصُ بِهَا الْحُقُوقُ، وَكَذَا بَخْسُ الْحُقُوقِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْعُلُومِ وَالْفَضَائِلِ، وَكُلٌّ مِنَ الْبَخْسَيْنِ فَاشٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَأَكْثَرُ التُّجَّارِ بَاخِسُونَ مُطَفِّفُونَ مُخْسِرُونَ، فِيمَا يَبِيعُونَ وَفِيمَا يَشْتَرُونَ وَأَكْثَرُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَكُتَّابُ السِّيَاسَةِ بَخَّاسُونَ لِحُقُوقِ صِنْفِهِمْ، وَنَفَّاجُونَ فِيمَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، يَتَشَبَّعُونَ بِمَا لَمْ يُعْطَوْا كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ،

وَيُنْكِرُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مَا أَعْطَاهُ اللهُ بِبَاعِثِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالْغُرُورِ.

وَجُمْلَةُ (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) تُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَاطَئُونَ عَلَى هَضْمِ الْغَرِيبِ وَبَخْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَشْمَلُ بَخْسَ الْأَفْرَادِ بَعْضَهُمْ أَشْيَاءَ بَعْضٍ، وَهَضَمَ الشَّعْبُ فِي جُمْلَتِهِ أَشْيَاءَ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُعَامِلُونَهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلَ الْغَرِيبُ يَأْخُذُونَ دَرَاهِمَهُ وَيَقُولُونَ هَذِهِ زُيُوفٌ، فَيَقْطَعُونَهَا ثُمَّ يَشْتَرُونَهَا مِنْهُ بِالْبَخْسِ يَعْنِي النُّقْصَانَ، وَهَذِهِ النَّقِيصَةُ فَاشِيَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَذُمُّ بَعْضًا وَيُنْكِرُ فَضْلَهُ كَالْأَفْرَادِ وَتَرَى التُّجَّارَ فِي عَوَاصِمِ أُورُبَّةَ يُغَالُونَ مِنَ الْأَسْعَارِ لِلْغُرَبَاءِ مَا يُرَخِّصُونَ لِأَهْلِ الْبِلَادِ وَتَرَى بَعْضَ الْغُرَبَاءِ يَسْتَحِلُّونَ مِنْ نَهْبِ أَمْوَالِ الْمِصْرِيِّينَ بِضُرُوبِ الْحِيَلِ وَالتَّلْبِيسِ مَا لَا يَسْتَحِلُّونَ مِثْلَهُ فِي مُعَامَلَةِ أَبْنَاءِ جِلْدَتِهِمْ، وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الشَّرْقِيِّينَ فَهُمْ فِي مُعَامَلَةِ الْإِفْرِنْجِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ ... لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا

يُجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ... وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا

وَيَا لَيْتَهُمْ يُعَامِلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَمَنْ تَجْمَعُهُمْ مَعَهُمْ أَقْوَى الْمُقَوِّمَاتِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهِمْ مَنْ يَبْخَسُونَ أَبْنَاءَ قَوْمِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ أَشْيَاءَهُمْ وَيَهْضِمُونَ حُقُوقَهُمْ، وَيُعَظِّمُونَ الْأَجْنَبِيَّ وَيُعْطُونَهُ فَوْقَ حَقِّهِ. وَإِنَّمَا اسْتَذَلَّهُمْ لِلْأَجَانِبِ حُكَّامُهُمْ، فَهُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ مَبْخُوسُونَ لَا بَاخِسُونَ، وَمَظْلُومُونَ لَا ظَالِمُونَ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَذْمُومُونَ لَا مَحْمُودُونَ، وَمَكْفُورُونَ لَا مَشْكُورُونَ.

(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) تَقَدَّمَ نَصُّ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي آيَةِ (٥٦) خِطَابًا لِأُمَّتِنَا فَفَسَّرْنَاهَا بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. وَنَقُولُ فِيمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ هُنَا: إِنَّ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ يَشْمَلُ إِفْسَادَ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ بِالظُّلْمِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>