الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ، وَإِلَّا لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ حُذَّاقِ النُّظَّارِ عِنْدَ وُصُولِ الْبُرْهَانِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، وَلَمْ يَقَعْ هَذَا وَلَا ذَاكَ.
(٢) إِنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فِيهَا لَيْسَتْ نُصُوصًا قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ فِي الْإِثْبَاتِ وَحْدَهُ وَلَا فِي النَّفْيِ وَحْدَهُ، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ قَلِيلٍ مِنَ السَّلَفِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْخَلَفِ، فَفَهْمُ عَائِشَةَ لِآيَةِ الْأَنْعَامِ وَمُجَاهِدٍ لِآيَةِ الْقِيَامَةِ مُخَالِفٌ لِرَأْيِ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ - فَعُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ؛ فَهِيَ إِذَنْ ظَنِّيَّةٌ، وَالتَّرْجِيحُ فِيهَا بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الْإِثْبَاتُ وَمَا ظَاهِرُهُ النَّفْيُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُثْبِتِينَ وَالنُّفَاةِ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ تَرْجِيحِهِ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا، أَوِ اتِّبَاعًا وَتَقْلِيدًا. فَالْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرِكَةُ الْإِلْزَامِ، فَلَا وَجْهَ لِطَعْنِ أَحَدٍ مِنْهُمَا فِي دِينِ الْآخَرِ، وَلَا فِي عِلْمِهِ بِهَا.
(٣) إِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يُمْكِنُ الْمِرَاءُ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ قَطْعِيٍّ، وَفِيهَا مَا قَدْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَيَأْتِي فِيهَا الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ حَتَّى مِنَ الْمَنْسُوبِينَ مِنْهُمْ إِلَى السُّنَّةِ، كَالْأَشْعَرِيَّةِ بَيْنَ التَّفْوِيضِ وَالتَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهَا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِهُمْ مِنَ النُّصُوصِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا
(٤) إِنَّ جُمْهُورَ السَّلَفِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَكْثَرَ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُفَوِّضُونَ فِي جُمْلَةِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - وَشُئُونِهِ وَأَفْعَالِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُمِرُّونَهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَحَكُّمٍ فِي تَأْوِيلٍ يُخْرِجُهَا عَنْ ظَوَاهِرِ مَعَانِيهَا، وَيُنَزِّهُونَهُ سُبْحَانَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ فِيمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالشُّئُونِ وَالْأَفْعَالِ، وَإِنَّ جُمْهُورَ الْخَلَفِ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ يَتَأَوَّلُونَ مَا عَدَا صِفَاتِ الْمَعَانِي، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ حَتَّى الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا تَرَاهُمْ أَقْرَبُ إِلَى السَّلَفِ فِي الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْكَلَامِ
الْإِلَهِيِّ، وَرُؤْيَةِ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَقَدْ شَنَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْحَنَابِلَةِ بِأَشَدِّ مَا يُشَنِّعُونَ بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَكِنَّهُمْ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى كَوْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يُسِلُّونَهُ مِمَّنْ يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ سَلًّا، وَيُبَرِّئُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَرْعًا وَأَصْلًا.
(٥) إِنَّ مِنْ أَصَحِّ الشَّوَاهِدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْقَضَايَا الْعَامَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: " ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ - قَالَ مَسْرُوقٌ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجَلِينِي أَلَمْ يَقُلِ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٨١: ٢٣) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute