وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ " خُرُوجٌ (٢٤: ١٧) .
وَرَأَى النَّبِيُّ الْخَاتَمُ الْأَعْظَمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ نُورًا مِنْ غَيْرِ نَارٍ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَعْلَى، وَلَكِنَّهُ كَانَ حِجَابًا دُونَ الرُّؤْيَةِ أَيْضًا، فَقَدْ سَأَلَهُ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - " هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " رَأَيْتُ نُورًا " وَمَعْنَاهُمَا مَعًا رَأَيْتُ نُورًا مَنَعَنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ لَا أَنَّهُ - تَعَالَى - نُورٌ، وَأَنَّهُ لِذَلِكَ لَا يُرَى، وَهَذَا يَتَلَاقَى وَيَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِ " حِجَابُهُ النُّورُ " وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا أَحَادِيثَ النُّورِ شَاهِدًا وَاحِدًا فِي مَوْضُوعِنَا، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ ذَاتِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَامْتِنَاعِهَا، كَمَا تَمْتَنِعُ رُؤْيَةُ شَيْءٍ تَكُونُ الشَّمْسُ دُونَهُ حِجَابًا لَهُ، فَمَنْ ذَا الَّذِي تَنْفُذُ أَشِعَّةُ نُورِ بَصَرِهِ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ وَنَارِهَا إِلَى مَا وَرَاءَهَا فَتُبْصِرُهُ؟ وَمَا هَذِهِ الشَّمْسُ الَّتِي يَرَاهَا عَلَى بُعْدٍ قَدَّرَهُ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ بِأَكْثَرِ مِنْ تِسْعِينَ مِلْيُونَ مِيلٍ، وَسَائِرُ الشُّمُوسِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَرَوْنَهَا بِالْمَنَاظِيرِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ، وَالَّتِي لَا يَرَوْنَهَا إِلَّا بَعْضَ مَا أَفَاضَهُ - تَعَالَى - مِنَ النُّورِ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَسُبُحَاتُ نُورِ وَجْهِهِ أَعْظَمُ وَأَقْوَى وَأَجَلُّ وَأَعْلَى، فَلَا تُذْكَرُ مَعَهَا أَنْوَارُ الشُّمُوسِ إِلَّا مِنْ بَابِ ضَرْبِ الْمَثَلِ الَّذِي وَرَدَ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى (١٦: ٦٠) .
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رُؤْيَةُ إِدْرَاكٍ مِمَّا يَمْتَنِعُ عَلَى جَمِيعِ
الْخَلْقِ حَتَّى الْمَلَائِكَةِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى لَا فِي الدُّنْيَا فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الذَّاتِ وَفَسَّرُوا وَجْهَ اللهِ بِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَا يُوَاجِهُ بِهِ الشَّخْصُ غَيْرَهُ، وَفِيهِ مَعَارِفُهُ؛ أَيْ: مَا يُعْرَفُ بِهِ وَيَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: أَنَّهُ - تَعَالَى - لَوْ كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ حِجَابَ النُّورِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَكْمَلُ الْبَشَرِ عِنْدَ ارْتِقَائِهِمْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَجَلَّى - سُبْحَانَهُ - لِلْخَلْقِ كَافَّةً بِدُونِ هَذَا النُّورِ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ، لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْهُمْ؛ أَيْ: لَأَحْرَقَتْهُمْ كُلُّهُمْ فَإِنَّ بَصَرَهُ - تَعَالَى - مُحِيطٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، وَهُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ، خُلَاصَتُهُ: أَنَّ آخَرَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعِلْمُ هُوَ اكْتِشَافُ الْحِجَابِ الْأَخِيرِ الَّذِي هُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي هُوَ مُبْتَدَأُ التَّكْوِينِ وَمَصْدَرُ التَّطَوُّرِ وَالتَّلْوِينِ.
قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: مَا لَكَمَ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (٧١: ١٣، ١٤) وَخَلْقُ النَّاسِ وَكَذَا سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ أَطْوَارًا، قَدْ فُصِّلَ فِي عُلُومِ سُنَنِ اللهِ فِي التَّكْوِينِ؛ فَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى أَطْوَارًا، وَفِي خَلْقِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ أَطْوَارٌ، وَفِي التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ لِلْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا أَطْوَارٌ، وَهِيَ بَعْدَ الْمَادَّةِ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا السَّمَاوَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute