للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْأَرْضَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَوْلَمَ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (٢١: ٣٠) وَقَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (٤١: ١١) إِلَخْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا أَوِ الْمُشَبَّهَةَ بِالدُّخَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِالْغَمَامِ الْمُشَابِهِ لِلدُّخَانِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (٢: ٢١٠) فَهَذَا كَلَامٌ عَنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّشْأَةُ الْأُخْرَى، وَذَاكَ كَلَامٌ فِي بَدْئِهِ وَهِيَ النَّشْأَةُ الْأُولَى وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقُ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ (٢٩: ٢٠) وَقَالَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (٢١: ١٠٤)

إِذَا تَذَكَّرْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْغَلُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَمُرَاقَبَتِهِ مِنْ أَطْوَارِ الْخَلْقِ وَشُئُونِهِ فَهُوَ حِجَابٌ لَهُ عَنْهُ، فَالْحُجُبُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ كَثِيرَةٌ، وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ وَعَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ حُجُبٌ دُونَهُ، وَأَنَّهُ فَوْقَهَا بَائِنٌ مِنْهَا لَا تُشْبِهُهُ وَلَا يُشْبِهُهَا، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ قَدْ تَكُونُ مِنْ وَسَائِلِ مَعْرِفَتِهِ وَشُكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَلَا تَكُونُ حُجُبًا إِلَّا دُونَ إِدْرَاكِ كُنْهِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ حُجُبًا لَهُ دُونَ

الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي شَاهِدٍ آخَرَ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا " سَأَلْتُ جِبْرِيلَ هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ قَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، وَلَوْ رَأَيْتُ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقْتُ " وَرَوَاهُ عَنْهُ سَمَّوَيْهِ بِلَفْظِ: " سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَنَارٍ " وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: " لِلَّهِ دُونَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ حِجَابًا لَوْ دَنَوْنَا مِنْ أَحَدِهَا لَأَحْرَقَتْنَا سُبُحَاتُ وَجْهِ رَبِّنَا " وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الْإِسْنَادِ لِمَا يُؤَيِّدُهَا مِنَ الصِّحَاحِ. وَعُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ يَرَوْنَ بِمَا اكْتَشَفُوهُ بِمَنَاظِيرِهِمِ الْمُكَبِّرَةِ عِيَانًا أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ النُّجُومِ الَّتِي نَرَاهَا أَوْ مَا عَدَا الدَّرَارِيَّ وَالْأَقْمَارَ مِنْهَا كُلَّهَا شُمُوسٌ، مِنْهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ شَمْسِ عَالَمِنَا هَذَا وَأَبْعَدُ مِنْهَا بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ مِنْ سِنِي سَيْرِ النُّورِ الَّذِي يَقْطَعُ بِهِ زُهَاءَ مِائَةِ مِلْيُونِ مِيلٍ فِي أَقَلِّ مِنْ عَشْرِ دَقَائِقَ، وَالنُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُلُّهَا دُونَ الْعَرْشِ.

(٧) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا " جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ " قَالُوا: إِنَّ الرِّدَاءَ هُنَا بِمَعْنَى الْحِجَابِ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا، وَقَدْ جَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ وَلَا إِشْكَالَ فِي التَّعْبِيرِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ رُؤْيَةِ الذَّاتِ بِدُونِ حِجَابٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ نَقْلًا عَنِ الْكِرْمَانِيِّ بَعْدَ عَدِّهِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَةَ اللهِ غَيْرُ وَاقِعَةٍ، وَأَجَابَ - أَيْ:

<<  <  ج: ص:  >  >>