للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْ: أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ مِلْيُونَ مِيلٍ

وَسَبْعِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ مِيلٍ فَكَمْ يَقْطَعُ فِي الْيَوْمِ، ثُمَّ كَمْ يَكُونُ فِي السَّنَةِ؟ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (١٧، ٥٨) .

إِنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ أَسْرَارِ الْقُوَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ إِلَى الْآنِ يَقْرُبُ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ إِرَادَةُ اللهِ - تَعَالَى - وَحِكْمَتُهُ كَمَا قَالُوا: مَنْشَأُ التَّكْوِينِ وَالتَّطَوُّرِ فِي عَالَمِ الْإِمْكَانِ بِسُرْعَةِ حَرَكَتِهَا وَكَوْنِهَا مَصْدَرُ النُّورِ، فَارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ بِهَا، وَانْتِظَامُهُ بِسُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِيهَا مَعْقُولٌ، وَأَمَّا تَوَلُّدُ الْعَنَاصِرِ مِنْهَا وَتَجَمُّعُهَا وَصَيْرُورَتُهَا سَدِيمًا كَالدُّخَانِ أَوِ الْغَمَامِ أَوْ بُخَارِ الْمَاءِ فَهُوَ طَوْرٌ ثَانٍ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَوَلُّدِ بَعْضِ عَنَاصِرِ الْمَادَّةِ مِنْ بَعْضٍ وَارْتِقَاءِ ذَلِكَ فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى جَوَاهِرِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ الْفَرْدَةِ فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الْكَهْرُبَاءَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْمَادَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ آخِرَ حِجَابٍ مَادِيٍّ مِمَّا حَالَ بَيْنَ الْمَادِّيِّينَ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا انْكَشَفَ هَذَا الْحِجَابُ، وَانْتَهَى بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِالرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ الْمَعْرِفَةِ.

وَلَكِنَّ الْحُجُبَ كَثِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَوْنُ الْكَهْرُبَاءِ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ - تَعَالَى - مِنَ الْمَادَّةِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ الْآنَ، فَهِيَ بِاعْتِرَافِهِمْ مُرَكَّبَةٌ، وَمُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُوجَبَةٍ وَسَالِبَةٍ، وَآثَارُهَا مِنْ إِثَارَةِ الْحَرَكَةِ وَتَوْلِيدِ النُّورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّمَا تَكُونُ بِاقْتِرَانِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجَبِ وَالسَّالِبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - ابْتِدَاءً كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مَادِّيٍّ آخَرَ، أَوْ بِسَبَبٍ رُوحِيٍّ سَابِقٍ عَلَيْهَا فِي الْخَلْقِ وَرُؤْيَتِهِ كِفَاحًا بِدُونِ حِجَابٍ أَلْبَتَّةَ - فَهَذَا مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَاشِيَةِ مِنَ التَّقْرِيبِ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ فِي الْحُجُبِ، وَمِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، وَلَكِنْ كَانَ مِنَ السَّهْوِ جَعَلْنَا إِيَّاهَا عَلَى إِجْمَالِهَا وَإِبْهَامِهَا فِي مَجْمُوعَةِ الْحَدِيثِ النَّجْدِيَّةِ، وَأَكْثَرُ قُرَّائِهَا لَا إِلْمَامَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي يَسْتَغْنُونَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَاعْتِصَامِهِمْ فِيهِ بِهَدْيِ السَّلَفِ، وَتَكَرَّرَ التَّنْبِيهُ فِيهِمَا عَلَى أَنَّنَا إِنَّمَا نَذْكُرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمَنَارِ وَفِي تَفْسِيرِهِ لِتَقْرِيبِ مَعَانِي النُّصُوصِ مِنْ عُقُولِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى هَذِهِ الْعُلُومِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الْمَفْتُونِينَ بِهَا، فَإِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّ أَبْعَدَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ مَأْلُوفِ الْبَشَرِ مِنْ أَخْبَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ يَتَّفِقُ مَعَ أَحْدَثِ مَا قَرَّرَهُ الْعِلْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّجَارِبِ وَالْبَحْثِ الْعَمَلِيِّ، فَالْمَرْجُوُّ

أَنْ يَكُونَ أَجْذَبَ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا يَكْثُرُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَمِنْهُ مَا صَارَ حَقَائِقَ وَاقِعَةً، وَمِنْهُ مَا قَرُبَ مِنْهَا حَتَّى وَرَدَتِ الْأَنْبَاءُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ الْعِلَاجِ بِالْكَهْرُبَائِيَّةِ يُعِيدُ إِلَى الشُّيُوخِ قُوَّةَ الشَّبَابِ وَنَضَارَتِهِ، وَذَلِكَ بِقُرْبِ كَوْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ شَبَابٌ لَا يَهْرَمُونَ، وَسَنُقَرِّبُ مَسْأَلَةَ الرُّؤْيَةِ بِأَوْضَحِ مِثَالٍ فِي بَحْثِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَقَدْ صَرَّحْنَا مِرَارًا بِأَنَّ كُلَّ مَا نُورِدُهُ مِنْ تَقْرِيبٍ وَتَأْلِيفٍ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَمِنْ تَفْسِيرٍ أَوْ تَأْوِيلٍ لِرَدِّ شُبَهَاتِ الزَّائِغِينَ، فَإِنَّنَا لَا نَخْرُجُ بِهِ عَنْ قَاعِدَتِنَا فِي الْمُعْتَقَدِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَنَا فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْفَضَائِلِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>