بِهِ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْخَمْسِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ، وَهُوَ أَفْتَى بِقَتْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكُفْرِهِ وَأَهَانَهُ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَلَوْ كَانَتْ عَلَامَاتُ الْمَسِيحِ فِي كُتُبِهِمْ مُصَرَّحَةً بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ (فِيهَا) عَلَى أَحَدٍ، مَا كَانَ مَجَالٌ لِهَذَا النَّبِيِّ الْمُفْتِي بِقَتْلِ إِلَهَهُ، وَبِكُفْرِهِ أَنْ يُفْتِيَ بِقَتْلِهِ وَكُفْرِهِ.
وَنَقَلَ مَتَّى وَلُوقَا فِي الْبَابِ الثَّالِثِ، وَمُرْقُسُ وَيُوحَنَّا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَاجِيلِهِمْ خَبَرَ أَشْعِيَا فِي حَقِّ يَحْيَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَقَرَّ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ يُوحَنَّا، وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا هَكَذَا (صَوَّتَّ الْمُنَادِي فِي الْبَرِّيَّةِ سَهِّلُوا طَرِيقَ الرَّبِّ أَصْلِحُوا فِي الْبَوَادِي سَبِيلًا لِإِلَهِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَالَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِيَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا مِنْ زَمَانِ خُرُوجِهِ وَلَا مَكَانِ خُرُوجِهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ ادِّعَاءُ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا ادِّعَاءُ مُؤَلِّفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَمَا ظَهَرَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ وَخَوَاصَّهُمْ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ؛ لِأَنَّ وَصْفَ النِّدَاءِ فِي الْبَرِّيَّةِ يَعُمُّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ أَشْعِيَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بَلْ يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُنَادِي مِثْلَ نِدَاءِ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاءِ، وَسَيَظْهَرُ لَكَ فِي (الْأَمْرِ السَّادِسِ) حَالُ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلَا نَدَّعِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِخْبَارُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِصِفَتِهِ مُفَصَّلًا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَجَالُ التَّأْوِيلِ لِلْمُعَانِدِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي ذَيْلِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢: ٤٢) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: (بِالْبَاطِلِ) أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ، بِسَبَبِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى السَّامِعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ نُصُوصًا خَفِيَّةً تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهَا، وَيُشَوِّشُونَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِينَ فِيهَا بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّيَالَكُوتِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ: هَذَا فَصْلٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ شَرْحٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَتَى بِلَفْظِةٍ مُعْرَضَةٍ، وَإِشَارَةٍ مُدْرَجَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَا انْفَكَّ كُتَّابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ تَضَمُّنِ ذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ بِإِشَارَاتٍ، وَلَوْ كَانَ مُنْجَلِيًّا لِلْعَوَامِّ لَمَّا عُوتِبَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي كِتْمَانِهِ، ثُمَّ ازْدَادَ ذَلِكَ غُمُوضًا بِنَقْلِهِ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ مِنَ الْعِبْرَانِيِّ إِلَى السُّرْيَانِيِّ، وَمِنَ السُّرْيَانِيِّ إِلَى الْعَرَبِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْتُ مُحَصِّلَةَ أَلْفَاظٍ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute