للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مُتَأَخَّرٌ؟ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَلَمَّا أَجَابَهُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ لَا وَحْيٌ، وَأَنَّ الْمُعَوِّلَ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَمَكَايِدِ الْحَرْبِ أَشَارَ بِغَيْرِهِ فَوَافَقَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.

وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى بِأَنْ يَعْرِضَ لَهُمُ الِاشْتِبَاهُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُبَيِّنُ لِأُولَئِكَ الْحَقَّ فِيمَا اشْتَبَهُوا فِيهِ، وَمَنْ ذَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ؟ وَلَوْ لَمْ يَتَّخِذِ النَّاسُ اجْتِهَادَ الْعُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ دِينًا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَهُ لَهَانَ الْأَمْرُ، وَلَكِنَّ اتِّخَاذَهُ دِينًا قَدْ كَثُرَتْ بِهِ التَّكَالِيفُ، وَوَقَعَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ فِي حَرَجٍ عَظِيمٍ فِي الْأَزْمِنَةِ الَّتِي ضَعُفَ فِيهَا الِاتِّبَاعُ، فَثَقُلَتْ عَلَى الطِّبَاعِ فَصَارُوا يَتْرُكُونَ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، وَجَرَّأَهُمْ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْمَشْرُوعِ الْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا حَرَجَ وَلَا عُسْرَ فِيهِ، ثُمَّ جَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ بَعْضِهِمْ لِلدِّينِ كُلِّهِ، وَدَعْوَةِ غَيْرِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَالْجَامِدُونَ مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفِقْهِ الْمُتَشَدِّدِينَ فِي إِلْزَامِ الْأُمَّةِ التَّدَيُّنَ بِاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ السُّوءِ وَلَا يُبَالُونَ إِذَا أَشْعَرَهُمُ الْمُصْلِحُونَ.

مِثَالُ مَا شَدَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ صَبْغُ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ، وَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالزِّينَةِ الْمُبَاحَةِ إِذْ لَا تَعَبُّدَ فِيهِ وَلَا حُقُوقَ لِلَّهِ وَلَا لِلنَّاسِ، إِلَّا مَا قَدْ يَعْرِضُ فِيهِ وَفِي مِثْلِهِ كَالزِّيِّ مِنْ كَوْنِ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ صَارَ خَاصًّا بِالْكُفَّارِ، وَفَعَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ تَشَبُّهًا بِهِمْ أَوْ صَارَ بِفِعْلِهِ لَهُ مُشَابِهًا لَهُمْ بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنْهُمْ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مَعْنَوِيٌّ وَسِيَاسِيٌّ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنْ كَوْنِ الْمُتَشَبِّهِ بِقَوْمٍ تَقْوَى عَظَمَتُهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ تَضْعُفُ فِيهَا رَابِطَتُهُ بِقَوْمِهِ وَأَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صَبْغِ الشَّيْبِ أَخْبَارٌ وَآثَارٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ عَادَةً لَا عِبَادَةً وَلَوْ بِالسَّوَادِ، وَفَهِمَ بَعْضُ

الْعُلَمَاءِ مِنْهُمَا اسْتِحْبَابَهُ شَرْعًا، وَفَهِمَ آخَرُونَ مِنْ بَعْضٍ آخَرَ كَرَاهَتِهِ بِالسَّوَادِ بَلْ قَالَ الْمُتَشَدِّدُونَ مِنْهُمْ بِتَحْرِيمِهِ، فَصَارَ الْمُقَلِّدُونَ لَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَعُدُّونَهُ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَخَالَفُوا هَدْيَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَفِي الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الْإِنْكَارِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْخِلَافُ.

فَمِنَ الْأَخْبَارِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ " أَنَّ أَبَا قُحَافَةَ وَالِدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ جَاءَ أَوْ أُتِيَ بِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ " فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّبْغِ بِالسَّوَادِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي وَاقِعَةِ عَيْنٍ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ عَادِيٍّ فَلَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، وَلَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعُمُومُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُعَارَضَةٌ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِصَبْغِ الشَّيْبِ الْمُوَجَّهِ لِلْأُمَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ - وَبِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ " وَظَاهِرُهُ تَغْيِيرُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>