للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(٧) إِنَّ الْقُرْآنَ يَنْبُوعٌ لِلْهِدَايَةِ وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، لَا تَخْلُقُ جِدَّتُهُ، وَلَا تَفْتَأُ تَتَجَدَّدُ هِدَايَتُهُ وَتَفِيضُ لِلْقَارِئِ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ حِكْمَتُهُ، فَرُبَّمَا ظَهَرَ لِلْمُتَأَخِّرِ مَنْ حِكَمِهِ وَأَسْرَارِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ قَبْلَهُ، تَصْدِيقًا لِعُمُومِ حَدِيثِ: " فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوَعَى مِنْ سَامِعٍ " وَتَرْجَمَتُهُ تُبْطِلُ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ، إِذْ تُفِيدُ الْقَارِئُ بِالْمَعْنَى الَّذِي صَوَّرَهُ الْمُتَرْجِمُ بِحَسْبَ فَهْمِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ قَدْ يَجْعَلُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ (١٥: ٢٢) مِنَ الْمَجَازِ بِالِاسْتِعَارَةِ، أَيْ أَنَّ اتِّصَالَ الرِّيحِ بِالسَّحَابِ، وَحُدُوثَ الْمَطَرِ عَقِبَ ذَلِكَ يُشْبِهُ تَلْقِيحَ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى، وَحُدُوثَ الْوَلَدِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا هُوَ جَرَى عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي يُتَرْجِمُ بِهَا لَفْظٌ يَقُومُ مَقَامَ (لِوَاقِحَ) الْعَرَبِيِّ فِي احْتِمَالِ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ إِذَا أُطْلِقَ فَإِنَّ الْقَارِئِينَ يَتَقَيَّدُونَ بِهَذَا الْفَهْمِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْهَمُوا مِنَ الْعِبَارَةِ مَا هِيَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ الرِّيَاحِ لَوَاقِحَ بِالْفِعْلِ، إِذْ هِيَ تَحْمِلُ مَادَّةَ اللِّقَاحِ مِنْ ذُكُورِ الشَّجَرِ إِلَى إِنَاثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْطَبِقْ هَذَا الْمِثَالُ عَلَى الْقَاعِدَةِ لَتَيَسَّرَ تَرْجَمَةُ الْآيَةِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً فَإِنَّ هُنَاكَ أَمْثِلَةً أُخْرَى، وَحَسَبُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا مُوَضَّحًا وَالتَّرْجَمَةُ تَقِفُ بِنَا عِنْدَ حَدٍّ مِنَ الْفَهْمِ يُعْوِزُنَا مَعَهُ التَّرَقِّي الْمَطْلُوبُ.

(٨) ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ " إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ " أَنَّ تَرْجَمَةَ آيَاتِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَاضِحٌ جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا عِبَارَتَهُ فِي تَفْسِيرِ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (٣: ٧) وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ مَدَرَجَةٌ لِلْكُفْرِ.

(٩) ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ لَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا - أَيْ وَمِثْلُ الْفَارِسِيَّةِ التُّرْكِيَّةُ وَغَيْرُهَا - فَمَا الَّذِي

يَفْعَلُهُ الْمُتَرْجِمُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ إِنْ شَرْحَهَا بِحَسْبَ فَهْمِهِ رُبَّمَا يُوقِعُ قَارِئَ تَرْجَمَتِهِ فِي اعْتِقَادِ مَا لَمْ يُرِدْهُ الْقُرْآنُ؟ (١٠) قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا: أَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مَالَهَا فَارِسِيَّةٌ تُطَابِقُهَا " لَكِنْ مَا جَرَتْ عَادَةُ الْفُرْسِ بِاسْتِعَارَتِهَا لِلْمَعَانِي الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِاسْتِعَارَتِهَا لَهَا " فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُتَرْجِمُ اللَّفْظَ الْفَارِسِيَّ يَكُونُ هُنَا مُؤَدِّيًا الْمَعْنَى الْحَقِيقِي لِلَّفْظِ الْعَرَبِيِّ. وَرُبَّمَا كَانَ مُرَادُ اللهِ هُوَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ، وَمِثْلُ الْفُرْسِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعَاجِمِ. وَهَذَا الْمَقَامُ مِنْ مَزَلَّاتِ الْأَقْدَامِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.

(١١) ذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْعَجَمِيَّةِ كَذَلِكَ. فَقَدْ يَخْتَارُ الْمُتَرْجِمُ غَيْرَ الْمُرَادِ لِلَّهِ مِنْ مَعْنَى الْمُشْتَرِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ آنِفًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>