للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(١٢) مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ ظَاهِرِ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا حَتَّى تَتَّفِقَ مَعَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَأْوِيلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلِ أَلْفَاظِ تَرْجَمَتِهِ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ لَاسِيَّمَا فِي الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ.

(١٣) إِنَّ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ تَأْثِيرًا خَاصًّا فِي نَفْسِ السَّامِعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ بِالتَّرْجَمَةِ، وَإِذَا فَاتَ يَفُوتُ بِفَوْتِهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، فَيَا طَالَمَا كَانَ جَاذِبًا إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى قَالَ أَحَدُ فَلَاسِفَةِ أُورُبَّا وَهُوَ فِرَنْسِيٌّ نَسِيتُ اسْمَهُ: إِنُّ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِحَالِ مُؤَثِّرَةٍ تَجْذِبُ السَّامِعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَكَانَ تَأْثِيرُهُ أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَحَضَرَ الدُّكْتُورُ فَارِسُ أَفَنْدِي نَمِر مَرَّةً الِاحْتِفَالَ السَّنَوِيَّ لِمَدْرَسَةِ الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ فَافْتَتَحَ الِاحْتِفَالَ تِلْمِيذٌ بِقِرَاءَةِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِي الدُّكْتُورُ فَارِسُ أَفَنْدِي: إِنَّ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَأْثِيرًا عَمِيقًا فِي النَّفْسِ. ثُمَّ لَمَّا كَتَبَ خَبَرَ الِاحْتِفَالِ فِي جَرِيدَتِهِ (الْمُقَطَّمِ) كَتَبَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ هَذَا التَّأْثِيرُ حَتَّى فِي نَفْسِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، فَكَيْفَ نَحْرِمُ مِنْهَا الْمُسْلِمِينَ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لَهُمْ.

(١٤) إِذَا تَرْجَمَ التُّرْكِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَالصِّينِيُّ. . . إِلَخ. الْقُرْآنَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ هَذِهِ التَّرَاجِمِ مِنَ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا بَيْنَ تَرَاجِمِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَقَدْ رَأَيْنَا مَا اسْتَخْرَجَهُ لَهُمْ صَاحِبُ إِظْهَارِ الْحَقِّ مِنَ الْخِلَافَاتِ الَّتِي كُنَّا نَقْرَؤُهَا، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ حَفِظَ كِتَابَنَا مِنْ مِثْلِهَا، فَكَيْفَ نَخْتَارُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِنَا؟ .

(١٥) إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْآيَةُ الْكُبْرَى عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، بَلْ هُوَ الْآيَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً مَحْفُوظَةً مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ، بِالنَّصِّ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالتَّرْجَمَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.

هَذَا مَا تَرَاءَى لَنَا مِنَ الْوُجُوهِ الْمَانِعَةِ مِنْ تَرْجَمَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ ; لِيَكُونَ لَهُمْ قُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ بَدَلَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنَّ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ فِي الْبَعْضِ - وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَكَذَا ; لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ - فَإِنَّ هُنَاكَ وُجُوهًا أُخْرَى يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُهَا لِمَنْ تَأَمَّلَ وَفَكَّرَ فِي وَقْتِ صَفَاءِ الذِّهْنِ وَصِحَةِ الْبَدَنِ، بَلْ مِنْهَا مَا تَرَكْنَاهُ مَعَ تَذَكُّرِهِ.

وَأَمَّا دَعْوَى الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ تَرْجَمَتِهِ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّرْجَمَةِ يَسْتَلْزِمُ إِيجَابَ بَقَائِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ فَهْمَهُ سَهْلٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ فَهَمَهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجْعَلُهُ دِينًا لِشَعْبٍ بِرُمَّتِهِ؟ وَإِنَّ لِاهْتِدَاءِ الْمُسْلِمِ الْأَعْجَمِيِّ بِالْقُرْآنِ دَرَجَتَيْنِ، دَرَجَةٌ دُنْيَا بِالْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَيَحْفَظُونَ الْفَاتِحَةَ وَبَعْضَ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ ; لِأَجْلِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَيُتَرْجَمُ لَهُمْ تَفْسِيرُهَا، وَتُقْرَأُ أَمَامَهُمْ فِي مَجَالِسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>