للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوَعْظِ بَعْضُ الْآيَاتِ، وَيُذْكَرُ لَهُمْ تَفْسِيرُهَا بِلُغَتِهِمْ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعَاجِمِ حَتَّى بِبِلَادِ الصِّينِ، وَدَرَجَةٌ عُلْيَا لِلْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ، وَهَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُتْقِنُوا لُغَتَهُ وَيَسْتَقِلُّوا بِفَهْمِهِ مُسْتَعِينِينَ بِكَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرَ مُقَلِّدِينَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ.

إِنَّ الْأَعَاجِمَ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَيْدِي الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ قَدْ فَهِمُوا أَنَّ لِلْإِسْلَامِ لُغَةً خَاصَّةً بِهِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً بَيْنَ أَهْلِهِ لِيَفْهَمُوا كِتَابَهُ الَّذِي

يَدِينُونَ بِهِ وَيَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَعْبُدُونَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ ; وَلِتَتَحَقَّقَ بَيْنَهُمُ الْوَحْدَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِيهِ: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (٢١: ٩٢) وَيَكُونُوا جَدِيرِينَ بِأَنْ يَعْتَصِمُوا بِهِ وَهُوَ حَبْلُ اللهِ فَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَلِتَكْمُلَ فِيهِمْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي حَتَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (٤٩: ١٠) ; وَلِذَلِكَ انْتَشَرَتِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الصَّحَابَةُ بِسُرْعَةٍ غَرِيبَةٍ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ مَدَارِسَ وَلَا كُتُبٍ وَلَا أَسَاتِذَةَ لِلتَّعْلِيمِ، وَاسْتَمَرَّتِ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْأُمَوِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَفِي أَوَّلِ مُدَّةِ الْعَبَّاسِيِّينَ حَتَّى صَارَتِ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةَ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَرْبَرِ وَالْقِبْطِ وَالرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ فِي مَمَالِكَ تَمْتَدُّ مِنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ (الْأَتْلَانْتِيكِ) إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، فَهَلْ كَانَ هَذَا إِلَّا خَيْرًا عَظِيمًا تَآخَتْ فِيهِ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَتَعَاوَنَتْ عَلَى مَدَنِيَّةٍ كَانَتْ زِينَةً لِلْأَرْضِ وَضِيَاءً وَنُورًا لِأَهْلِهَا.

ثُمَّ هَفَا الْمَأْمُونُ فِي الشَّرْقِ هَفْوَةً سِيَاسِيَّةً حَرَّكَتِ الْعَصَبِيَّةَ الْجِنْسِيَّةَ فِي الْفَرَسِ فَأَنْشَؤُوا يَتَرَاجَعُونَ إِلَى لُغَتِهِمْ، وَيَعُودُونَ إِلَى جِنْسِيَّتِهِمْ، وَجَاءَ الْأَتْرَاكُ فَفَعَلُوا بِالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ مَا فَعَلُوا، فَسَقَطَ مَقَامُ الْخِلَافَةِ وَتَمَزَّقَ شَمْلُ الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَلَكِنْ لَمْ تَصِلِ الْفِتْنَةُ بِالنَّاسِ إِلَى إِيجَادِ قُرْآنٍ أَعْجَمِيٍّ لِلْأَعَاجِمِ، وَإِبْقَاءِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ خَاصًّا بِالْعَرَبِ، بَلْ بَقِيَ الدِّينُ وَالْعِلْمُ عَرَبِيَّيْنِ وَرَاءَ إِمَامِهِمَا الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ.

فَالْوَاجِبُ عَلَى دُعَاةِ الْإِصْلَاحِ فِي الْإِسْلَامِ الْآنَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي إِعَادَةِ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ خَيْرِ قُرُونِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِالطُّرُقِ الصِّنَاعِيَّةِ فِي التَّعْلِيمِ، فَيَجْعَلُوا تَعَلُّمَ الْعَرَبِيَّةِ إِجْبَارِيًّا فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْمُسْلِمِينَ وَيُحْيُوا الْعِلْمَ بِالْإِسْلَامِ بِطَرِيقَةٍ اسْتِقْلَالِيَّةٍ لَا يَتَقَيَّدُونَ فِيهَا بِآرَاءِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الْمُخَالِفَةِ لِطَبِيعَةِ هَذَا الْعَصْرِ فِي أَحْوَالِهَا الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَلَكِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمَفْتُونِينَ مِنَّا بِسِيَاسَةِ أُورُبَّا يُعَاوِنُونَهَا عَلَى تَقْطِيعِ بَقِيَّةِ مَا تَرَكَ الزَّمَانُ مِنَ الرَّوَابِطِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِتَقْوِيَةِ الْعَصَبِيَّاتِ الْجِنْسِيَّةِ حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يُحَاوِلُ إِغْنَاءَ بَعْضِ شُعُوبِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ! أَلَّا إِنَّهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا. فَهَذَا مَا أَقُولُهُ الْآنَ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ

تَفْسِيرِهِ لَهُمْ بِلُغَتِهِمْ مَعَ بَقَائِهِ إِمَامًا لَهُمْ، وَدُونَ تَرْجَمَتِهِ لِدَعْوَةِ غَيْرِهِمْ بِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّ الْمُتَرْجِمَ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَفْهَمُهُ هُوَ. انْتَهَتِ الْفَتْوَى.

وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْفَتْوَى: أَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ تَرْجَمَةً حَرْفِيَّةً مُتَعَذِّرَةٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>