للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَلْ تَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ كَقِرَاءَتِهِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ قَضَّة مَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنِ الْأَصْحَابِ التَّحْرِيمُ، وَوَجْهَهُ بِمَا لَا يَخْرُجُ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ فَرَاجِعْهُ.

" وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ: الْأَقْرَبُ الْمَنْعُ مِنْ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ كَمَا تَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَفِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَنَّ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالْعَجَمِيِّ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ الْمُعْجِزِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّحَدِّي بِمَا لَمْ يَرِدْ بَلْ بِمَا يُوهِمُ عَدَمَ الْإِعْجَازِ بَلِ الرَّكَاكَةَ ; لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَجَمِيَّةَ فِيهَا تَقْدِيمُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ ; وَذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِالنُّظُمِ وَيُشَوِّشُ الْفَهْمَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مَنَاطُ الْإِعْجَازِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حُرْمَةِ تَقْدِيمِ آيَةٍ عَلَى آيَةٍ يَعْنِي أَوْ كَلِمَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ كَمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ قِرَاءَةً اهـ.

" بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ فِي تَرْتِيبِ حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمُرَاعَاةِ التَّنَاسُبِ فِيمَا بَيْنَهَا مِنَ الصِّفَاتِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ مَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَضْلًا عَمَّا فِي تَرْتِيبِ الْكَلِمَاتِ وَالْجُمَلِ مِنَ اللَّطَائِفِ وَالْأَسْرَارِ مِمَّا لَا يَحُومُ حَوْلَ بَيَانِهِ لِسَانٌ أَوْ يُدْرِكُهُ جَنَانٌ.

" وَمَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كُتِبَ بِغَيْرِهَا: هَلْ يَحْرُمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجَنْبِ؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْجَوَازِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَنَقْلَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْبَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كُتِبَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ يَحْرِمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجَنْبِ، إِذْ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَإِلَّا لَمْ تَحْرُمْ كِتَابَتُهُ اهـ.

وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا تَسَعُهُ أَوْضَاعُ اللُّغَةِ الْمَكْتُوبِ بِهَا، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ، وَإِعْطَاؤُهَا حُكْمَ الْقُرْآنِ حَمَلًا وَمَسًّا عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ احْتِرَامٌ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَإِلْحَاقٌ لِنُقُوشِ الرَّسْمِ الْعَجَمِيِّ بِالرَّسْمِ الْمَخْطُوطِ الْعَرَبِيِّ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ.

" وَلَمْ يُلَاحَظْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مَعَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مَوْجُودٌ فِيهِ مُتَخَلِّلٌ بَيْنَ سُطُورِهِ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ تَغْيِيرٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنَ وَلَا تَرْجَمَتُهُ بَلْ يُسَمَّى تَفْسِيرًا فَقَطْ، وَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَرُوعِيَ جَانِبُهُ فِي الْحُكْمِ كَمَا رُوعِيَ فِي التَّسْمِيَةِ،

وَالْكِتَابَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَظْمُ الْقُرْآنِ مَوْجُودًا فِيهَا بِذَاتِهِ، وَلَا هِيَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ بِهَيْئَتِهِ، وَلَكِنْ لِوَضْعِ نَقْشِهِ مَكَانَ النَّقْشِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَهُ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ.

" وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّسُومَ الْكِتَابِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ كُلَّهَا مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِهِ أُعْطِيَتْ حُكْمًا وَاحِدًا حَمْلًا وَمَسًّا، بِخِلَافِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مِنْ وَضْعِ اللهِ تَعَالَى وَمَا عَدَاهُ مَنْ صُنْعِ الْبَشَرِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يُنَزِّلْ غَيْرَ النَّظْمِ الْمُعْجِزِ مَنْزِلَتَهُ قِرَاءَةً وَتَعَبُّدًا وَنَزَلَ الرَّسْمُ غَيْرُ الْعَرَبِيِّ مَنْزِلَةَ الْعَرَبِيِّ حَمَلَا وَمَسًّا عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ.

"

<<  <  ج: ص:  >  >>