للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ هُوَ الْبَحْرُ الْخِضَمُّ، وَالْقَامُوسُ الْمُحِيطُ الْأَعْظَمُ، فَإِنَّهُ أَظْهَرَ وُجُوهَ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَمْزِجَ فُنُونَ الْكَلَامِ. وَيُنَظِّمَ مَقَاصِدَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَتَبَايُنِ مَوْضُوعَاتِهَا، مَزْجًا مُتَلَائِمًا، وَنَظْمًا مُتَنَاسِبًا مُتَنَاسِقًا، مُوَافِقًا لِلذَّوْقِ السَّلِيمِ، مُطَابِقًا لِنُكَتِ الْبَلَاغَةِ. فَالْعَقَائِدُ الْإِلَهِيَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وَالْأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ، وَالسُّنَنُ الْكَوْنِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَالْمَوَاعِظُ الْأَخْلَاقِيَّةُ وَالْأَدَبِيَّةُ، وَأَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ، وَوَصْفُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ جَمَادَاتٍ وَأَحْيَاءٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَوَاءٍ وَهَبَاءٍ، تَرَاهُ كُلَّهُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَتَرَى الْكَثِيرَ مِنْهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، بِعِبَارَةٍ بَدِيعَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، يَنْتَقِلُ فِيهَا الْعَقْلُ مِنْ فَائِدَةٍ إِلَى فَائِدَةٍ وَيَتَقَلَّبُ

فِيهَا الْقَلْبُ مِنْ مَوْعِظَةٍ إِلَى مَوْعِظَةٍ، مَعَ مُنْتَهَى الْإِحْكَامِ وَالْمُنَاسَبَةِ، بِحَيْثُ لَا تَمَلُّ تِلَاوَتَهُ، وَلَا تَفْتَأُ تَتَجَدَّدُ هِدَايَتُهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْأُدَبَاءِ وَأَهْلِ الذَّوْقِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَتَرَدَّدُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عَلَى بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ. وَيُمَتِّعُوا قُلُوبَهُمْ وَأَذْوَاقَهُمْ بِسَمَاعِ تَرْتِيلِهِ، بِذَلِكَ النَّظْمِ الَّذِي لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا سَجْعٍ، وَلَا كَلَامٍ مُرْسَلٍ، بَلْ هُوَ نَظْمٌ خَاصٌّ، قَابِلٌ لِلْأَدَاءِ بِالنَّغَمَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُؤَثِّرَةِ عَلَى تَفَاوُتِ آيَاتِهِ وَفَوَاصِلِهِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَالْآيَةُ قَدْ تَكُونُ كَلِمَةً مُفْرَدَةً أَوْ كَلِمَتَيْنِ وَجُمْلَةً أَوْ جُمْلَتَيْنِ، أَوْ جُمَلًا قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَكُلُّهَا " مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ، وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَأْثِيرٌ غَرِيبٌ فِي تَرْتِيلِهَا وَتَجْوِيدِهَا، بِالْأَصْوَاتِ الْمُلَائِمَةِ لِمَعَانِيهَا.

صَلَّيْتُ الْفَجْرَ مَرَّةً فِي أَهْلِ بَيْتِي بِسُورَةِ الْقَمَرِ، وَتَلَوْتُهَا بِصَوْتٍ خَاشِعٍ صَادِعٍ مُنَاسِبٍ لِزَوَاجِرِهَا وَنُذُرِهَا، فَقَالَتْ لِي الْوَالِدَةُ: إِنَّ هَذِهِ النُّذُرَ تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَصَارَتْ تُسَمِّيهَا سُورَةَ النُّذُرِ. وَقَالَتْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مَرَّةً أُخْرَى فِي سُورَةِ (ق) فَهَلْ يُتَصَوَّرُ مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ لِلتَّرْجَمَةِ التُّرْكِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ لُغَاتِ الْأَعَاجِمِ فِي أَنْفُسِ أَهْلِهَا كَمَا يُؤَثِّرُ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا دُونَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ؟ كَلَّا.

نَمُوذَجٌ مِنْ تَرْجَمَةٍ تُرْكِيَّةٍ:

إِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا ذُكِرَ تَذَكَّرْتُ أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَعَارِفِي تَرْجَمَةً تُرْكِيَّةً لِلْقُرْآنِ فَاسْتَعَرْتُهَا مِنْهُ، فَإِذَا هِيَ تَرْجَمَةُ جَمِيلِ بْنِ سَعِيدٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا - وَإِذَا فِيهَا مِنَ النَّقْصِ وَالْحَذْفِ وَالْخَطَأِ فَوْقَ مَا كُنْتُ أَظُنُّ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنَ التَّرْجَمَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ ; لِأَنَّهُ هُوَ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ جُرْأَةٌ قَبِيحَةٌ لَا تَصْدُرُ عَنْ رَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَتَدُلُّ عَلَى سُوءِ نِيَّةِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ فِي التَّرْجَمَةِ، وَكَوْنُ غَرَضَهُمْ مِنْهَا الْعَبَثُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَتَنْفِيرُ التُّرْكِ مِنْهُ. وَفَتْحُ أَبْوَابِ الطَّعْنِ لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ رَاجَعْنَا فِيهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَوَجَدْنَاهُ يَذْكُرُ أَلْفَاظَهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>