(١٥٢: ٩ - ١١) فَلَمْ يَبْقَ لِإِرْسَائِهَا مَعْنًى إِلَّا إِرْسَاءَ حَرَكَةِ هَذَا الْعَالَمِ فِيهَا، وَإِنَّهُ لَتَعْبِيرٌ بَلِيغٌ، لَمْ يُعْهَدْ لَهُ فِي كَلَامِ
الْبُلَغَاءِ نَظِيرٌ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا نَبَّهَ لِهَذَا. وَذِكْرُ السَّاعَةِ أَوَّلًا، وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ زَمَنِ وُقُوعِهَا ثَانِيًا عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ.
قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّائِلِينَ هُنَا الْيَهُودُ، سَأَلُوهُ عَنْهَا امْتِحَانًا. قَالُوا: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَإِنَّهُ لَا يُعَيِّنُ لَهَا زَمَنًا; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ. وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَصِيغَةُ " يَسْأَلُونَكَ " الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا الْحَالُ لَا الِاسْتِقْبَالُ الْبَعِيدُ، وَفِي آيَةِ الْأَحْزَابِ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (٣٣: ٦٣) وَهَذِهِ مَدَنِيَّةٌ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ تَرْجِيحِ كَوْنِ السَّائِلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: وَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهَا، وَتَكْذِيبًا بِوُجُودِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٠: ٤٨) وَقَالَ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٤٢: ١٨) وَقَوْلُهُ: أَيَّانَ مُرْسَاهَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُنْتَهَاهَا. أَيْ مَتَى مَحَطُّهَا، وَأَيَّانَ آخِرُ مُدَّةِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ السَّاعَةِ اهـ.
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي قُلْ أَيُّهَا النَّذِيرُ: إِنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ عِنْدَ رَبِّي وَحْدَهُ، لَيْسَ عِنْدِي وَلَا عِنْدَ غَيْرِي مِنَ الْخَلْقِ شَيْءٌ مِنْهُ - وَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ " إِنَّمَا " مِنَ الْحَصْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَفَاتِحَ الْغَيْبِ: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ (٣١: ٣٤) أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَاهُ - وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا (٤١: ٤٧) الْآيَةَ. أَيْ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَأَشْبَهُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِئْثَارِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِالسَّاعَةِ بِآيَةِ الْأَعْرَافِ آيَتَانِ: آيَةُ الْأَحْزَابِ (٣٣: ٦٣) وَذَكَرْنَاهَا آنِفًا - وَآيَةُ أَوَاخِرِ النَّازِعَاتِ وَمَا بَعْدَهَا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٧٩: ٤٢ - ٤٦) أَيْ إِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ مِنْ دُونِكِ، وَدُونِ سَائِرِ خَلْقِهِ مُنْتَهَى أَمْرِ السَّاعَةِ الَّذِي يَسْأَلُونَكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَهَا، وَيَسْتَعِدُّونَ لَهَا لَا تَعْدُو وَظِيفَتُهُ الْإِنْذَارَ وَالتَّعْلِيمَ وَالْإِرْشَادَ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ كَآيَةِ الْأَعْرَافِ سُؤَالًا وَجَوَابًا، فَالسُّؤَالُ عَنِ السَّاعَةِ مِنْ حَيْثُ إِرْسَاؤُهَا وَمُنْتَهَى أَمْرِهَا، وَالْجَوَابُ رَدُّ ذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ رَسُولِهِ، فَمَا أَخْبَرَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَى رَبِّكِ مُنْتَهَاهَا هُوَ مَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَ بِهِ فِي قَوْلِهِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ، لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ، فَهُوَ تَعَالَى قَدْ رَبَّاهُ لِيَكُونَ مُنْذِرًا وَمُبَشِّرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute