للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا لِلْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ بِأَعْيَانِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَالْإِنْذَارُ إِنَّمَا يُنَاطُ بِالْإِعْلَامِ بِالسَّاعَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَالنَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، وَلَا تَتِمُّ الْفَائِدَةُ مِنْهُ إِلَّا بِإِبْهَامِ وَقْتِهَا ; لِيَخْشَى أَهْلُ كُلِّ زَمَنٍ إِتْيَانَهَا فِيهِ، وَالْإِعْلَامُ بِوَقْتِ إِتْيَانِهَا وَتَحْدِيدِ تَارِيخِهَا يُنَافِي هَذِهِ الْفَائِدَةَ بَلْ فِيهِ مَفَاسِدٌ أُخْرَى، فَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي بَعْدَ أَلْفَيْ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا، مَثَلًا - وَأَلْفَا سَنَةٍ فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ وَآلَافُ السِّنِينَ تُعَدُّ أَجَلًا قَرِيبًا - لَرَأَى الْمُكَذِّبِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَيُلِحُّونَ فِي تَكْذِيبِهِ، وَالْمُرْتَابِينَ يَزْدَادُونَ ارْتِيَابًا، حَتَّى إِذَا مَا قَرُبَ الْأَجَلُ وَقَعَ الْمُؤْمِنُونَ فِي رُعْبٍ عَظِيمٍ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ حَيَاتَهُمْ، وَيُوقِعُ الشَّلَلَ فِي أَعْضَائِهِمْ، وَالتَّشَنُّجَ فِي أَعْصَابِهِمْ، حَتَّى لَا يَسْتَطِيعُونَ عَمَلًا وَلَا يَسِيغُونَ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ وَمَا يَمْلِكُهُ، مِنْ حَيْثُ يَكُونُ الْكَافِرُونَ آمِنِينَ، يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي أُورُبَّةَ أَنْ أَخْبَرَ بَعْضُ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ كَانَ يُقَلِّدُهُمُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ فِي سَنَةِ كَذَا، فَهُلِعَتِ الْقُلُوبُ، وَاخْتَلَّتِ الْأَعْمَالُ، وَأُهْمِلَ أَمْرُ الْعِيَالِ، وَوَقَفَ الْمُصَدِّقُونَ مَا يَمْلِكُونَ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْأَدْيَارِ، وَلَمْ تَهْدَأِ الْأَنْفُسُ، وَيَثُبْ إِلَيْهَا رُشْدُهَا إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ كَذِبِ النَّبَأِ بِمَجِيءِ أَجَلِهِ دُونَ وُقُوعِهِ، فَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ إِذًا فِي إِبْهَامِ أَمْرِ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالَمِ، وَكَذَا السَّاعَةِ الْخَاصَّةِ بِأَفْرَادِ النَّاسِ، أَوْ بِالْأُمَمِ وَالْأَجْيَالِ، وَجَعْلِهَا مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ فِي إِيضَاحِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ حَصْرِ أَمْرِهَا فِي عِلْمِهِ:.

لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ هَذَا جَوَابٌ عَنْ طَلَبِ مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ إِرْسَاؤُهَا فِيهِ، يُقَالُ: جَلَا لِي الْأَمْرُ وَانْجَلَى، وَجَلَّاهُ فَلَانٌ تَجْلِيَةً بِمَعْنَى: كَشَفَهُ وَأَظْهَرَهُ أَتَمَّ الْإِظْهَارِ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى وَقْتِهَا تُسَمَّى لَامُ التَّوْقِيتِ كَقَوْلِهِمْ: وَكُتِبَ هَذَا الْكِتَابُ لِغُرَّةِ الْمُحَرَّمِ أَوْ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ أَوْ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يُكْشَفُ حِجَابُ الْخَفَاءِ عَنْهَا، وَلَا يُظْهِرُهَا فِي وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ عِنْدَ الرَّبِّ تَعَالَى إِلَّا هُوَ، فَلَا

وَسَاطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي إِظْهَارِهَا، وَلَا الْإِعْلَامِ بِمِيقَاتِهَا، وَإِنَّمَا وَسَاطَةُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْإِنْذَارِ بِهَا.

وَقَفَّى عَلَى هَذَا الْإِيئَاسِ مِنْ عِلْمِ أَمْرِهَا، وَالْإِنْبَاءِ بِوَقْتِ وُقُوعِهَا بِقَوْلِهِ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا وَسِرِّ إِخْفَاءِ وَقْتِهَا: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: ثَقُلَ وَقْعُهَا وَعَظُمَ أَمْرُهَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى نَبَّأَهُمْ بِأَهْوَالِهَا، وَلَمْ يُشْعِرْهُمْ بِمِيقَاتِهَا، فَهُمْ يَتَوَقَّعُونَ أَمْرًا عَظِيمًا لَا يَدْرُونَ مَتَّى يَفْجَؤُهُمْ وُقُوعُهُ.

رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَالَ: ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَفِيَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ تَفْسِيرٌ لِثِقَلِهَا بِفَقْدِ الْعِلْمِ بِهَا، فَإِنَّ الْمَجْهُولَ ثَقِيلٌ عَلَى النَّفْسِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ عَظِيمًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَعْمَرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ ثِقَلَهَا يَكُونُ يَوْمَ مَجِيئِهَا إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>