للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنَ الْفُرْسِ وَهَضَمَتْهَا لُغَتُهُمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ، مِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَى الدَّعْوَى دِلَالَةً صَحِيحَةً كَثُبُوتِ أَخْذِ الْعَرَبِ عَنِ الْعَجَمِ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ كَالْكُوزِ وَالْإِبْرِيقِ وَالطَّسْتِ، وَكَزَعْمِهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ وَضْعُ أَلْفَاظٍ لِلْمَعَانِي الْخَاصَّةِ بِالْمَدَنِيَّةِ وَالْعُمْرَانِ كَالْوَزِيرِ وَالصَّاحِبِ وَالْعَامِلِ وَالتَّوْقِيعِ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبُؤْسِ وَعَدَمِ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِعْبَادِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَالْأَوَّلُ: حَقٌّ غَيْرُ دَالٍّ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ فَعَدَمُ دِلَالَتِهِ عَلَى ذِكْرٍ أَوْلَى. وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تُجَاوِرُ أُمَّةً وَتُخَالِطُهَا تَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ لُغَتِهَا فَتَعْتَادُهُ فَيَدْخُلُ فِي لُغَتِهَا وَإِنْ كَانَ عِنْدَهَا مُرَادِفٌ لَهُ، وَهَكَذَا مَا وَقَعَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَمَعْرِفَةُ السَّابِقِ لِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَبِهَةِ مِنَ الْأُمَّتَيْنِ فِيهِ عُسْرٌ شَدِيدٌ، وَقَدْ سَبَقَ لِلْعَرَبِ مَدَنِيَّاتٌ قَدِيمَةٌ فِي جَزِيرَتِهِمْ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصِ الْمِلْكِيَّةِ، كُفُوا مُؤْنَةَ وَضْعِ لَفْظٍ بِإِزَائِهَا " مُحْتَمِلٍ غَيْرِ حَقِيقٍ. وَأَقْوَى مِنْهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ مُفِيدٌ سَوَاءً كَانَ اللَّفْظُ أَصِيلًا فِي الْعَرَبِيَّةِ أَوْ مُعَبِّرًا دَخِيلًا، لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنَ اللَّفْظِ بِدِلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَنَنْقُلُهُ بِنَصِّهِ وَهُوَ: (وَمِنْهَا) أَنَّ الْحِيرَةَ - وَكَانَتْ مَنَازِلَ آلِ نُعْمَانَ - كَانَتْ تَدِينُ لِلْعَجَمِ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْإِتَاوَةَ وَالْخَرَاجَ، وَلَمَّا كَانَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ هُوَ الَّذِي سَنَّ الْجِزْيَةَ أَوَّلًا كَمَا نُبَيِّنُهُ فِيمَا سَيَأْتِي، يَغْلُبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْعَرَبَ أَوَّلَ مَا عَرَفُوا الْجِزْيَةَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ وَتَعَاوَرُوا اللُّغَةَ الْعَجَمِيَّةَ بِعَيْنِهَا، وَمِنْ مُسَاعَدَةِ الْجِدِّ أَنَّ اللَّفْظَ كَانَتْ زِنَتُهُ زِنَةَ الْعَرَبِيِّ فَلَمْ يَحْتَاجُوا فِي تَعْرِيبِهِ إِلَى كَبِيرِ مُؤْنَةٍ بَعْدَ مَا أُبْدِلَ كَافُهَا جِيمًا صَارَتْ كَأَنَّهَا عَرَبِيُّ الْأَصْلِ وَالنِّجَارِ. وَمَعَ هَذِهِ كُلِّهَا فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ لَا يُهِمُّنَا وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَبِيرُ غَرَضٍ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، فَنَحْنُ فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ وَإِسْهَابِهِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَبْحَاثِ.

(الثَّانِي) أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْجِزْيَةَ فِيمَا عَلِمْنَا كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ، وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ

أُصُولَهَا وَجَعَلَهَا طَبَقَاتٍ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَدِّثُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ يَذْكُرُ مَا فَعَلَهُ كِسْرَى فِي أَمْرِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ: وَأَلْزَمُوا النَّاسَ مَا خَلَا أَهْلَ الْبُيُوتَاتِ وَالْعُظَمَاءَ وَالْمُقَاتِلَةَ وَالْمَرَازِبَةَ وَالْكُتَّابَ وَمَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ الْمَلِكِ، وَصَيَّرُوهَا عَلَى طَبَقَاتٍ: اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَثَمَانِيَةً، وَسِتَّةً، وَأَرْبَعَةً، بِقَدْرِ إِكْثَارِ الرَّجُلِ أَوْ إِقْلَالِهِ، وَلَمْ يُلْزِمُوا الْجِزْيَةَ مَنْ كَانَ أَتَى لَهُ مِنَ السِّنِّ دُونَ الْعِشْرِينَ وَفَوْقَ الْخَمْسِينَ.

ثُمَّ قَالَ. " وَهِيَ الْوَضَائِعُ الَّتِي اقْتَدَى بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ افْتَتَحَ بِلَادَ الْفُرْسِ " وَقَالَ الْمُؤَرِّخُ الشَّهِيرُ أَبُو حَنِيفَةَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ الدَّيْنَوَرِيُّ - وَهُوَ أَقْدَمُ زَمَانًا مِنَ الطَّبَرِيِّ - فِي كِتَابِهِ الْأَخْبَارُ الطِّوَالُ فِي ذِكْرِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ: " وَوَظَّفَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ، وَأَسْقَطَهَا عَنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَالْمَرَازِبَةِ وَالْأَسَاوِرَةِ وَالْكُتَّابِ وَمَنْ كَانَ فِي خِدْمَةِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يُلْزِمْ أَحَدًا لَمْ تَأْتِ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً أَوْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ ".

<<  <  ج: ص:  >  >>