وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذِهِ النُّصُوصِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْثُورَةٌ مِنْ آلِ كِسْرَى، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَيْسَتْ بِأَوَّلِ وَاضِعٍ لَهَا، وَأَنَّ كِسْرَى رَفَعَ الْجِزْيَةَ عَنِ الْجُنْدِ وَالْمُقَاتِلَةِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اقْتَدَى بِهَذِهِ الْوَضَائِعِ.
أَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي تَوَخَّاهُ كِسْرَى فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَبَيَّنَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ نَاقِلًا عَنْ كَلَامِ كِسْرَى فَقَالَ: " وَلَمَّا نَظَرْتُ فِي ذَلِكَ وَجَدْتُ الْمُقَاتِلَةَ أُجَرَاءَ لِأَهْلِ الْعِمَارَةِ، وَأَهْلَ الْعِمَارَةِ أُجَرَاءَ لِلْمُقَاتِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أُجُورَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ وَسُكَّانِ الْبُلْدَانِ ; لِمُدَافَعَتِهِمْ عَنْهُمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ عَمَّنْ وَرَاءَهُمْ، فَحَقَّ عَلَى أَهْلِ الْعِمَارَةِ أَنْ يُوَفُّوهُمْ أُجُورَهُمْ، فَإِنَّ الْعِمَارَةَ وَالْأَمْنَ وَالسَّلَامَةَ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِمْ، وَرَأَيْتُ أَنَّ الْمُقَاتِلَةَ لَا يَتِمُّ لَهُمُ الْمُقَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَتَثْمِيرُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إِلَّا بِأَهْلِ الْخَرَاجِ وَالْعِمَارَةِ، فَأَخَذْتُ لِلْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا يَقُومُ بِأَوَدِهِمْ، وَتَرَكْتُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مِنْ مُسْتَغَلَّاتِهِمْ مَا يَقُومُ بِمُؤْنَتِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ، وَلَمْ أُجْحِفْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ".
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمِلَّةِ الْمُدَافَعَةُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَمَنْ كَانَ
يَقُومُ بِهَذِهِ الْعِبْءِ بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ - وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجُنْدِ وَالْمُقَاتِلَةُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَشْغَلُهُ أَمْرُ الْعِمَارَةِ وَتَدْبِيرُ الْحَرْثِ عَنِ الْمُخَاطَرَةِ بِالنَّفْسِ، فَيَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ سَنَةٍ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ حِمَايَتِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْجِزْيَةِ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْعِمَارَةِ وَتُعْطَى لِلْمُقَاتِلَةِ وَالْجُنْدِ الَّذِينَ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِحِمَايَةِ الْبِلَادِ وَاسْتِتْبَابِ وَسَائِلِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ لِكَافَّةِ الْعِبَادِ.
(الثَّالِثُ) أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَأْنُهَا شَأْنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالسَّلْطَنَةِ بَلِ الْغَايَةُ الَّتِي تَوَخَّاهَا الشَّرْعُ لَيْسَتْ إِلَّا تَكْمِيلَ النَّفْسِ وَتَطْهِيرَ الْأَخْلَاقِ، وَالْحَثَّ عَلَى الْخَيْرِ، وَالرَّدْعَ عَنِ الْإِثْمِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا عَلَى نَوْعٍ مِنَ السِّيَاسَةِ الْمَلَكِيَّةِ لَمْ تَكُنِ الشَّرِيعَةُ لِتُنْقَلَ عَنْهَا كُلِّيًّا، فَاخْتَارَتْ جُمْلَةً مِنَ الْوَضَائِعِ تَكُونُ مَعَ سَذَاجَتِهَا كَافِلَةً لِانْتِظَامِ أَمْرِ النَّاسِ وَإِصْلَاحِ ارْتِفَاقَاتِهِمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ وَالْقِتَالُ، الْمَقْصُودُ بِهِمَا الذَّبُّ عَنْ حِمَى الْإِسْلَامِ وَالدَّفْعُ عَنْ بَيْضَةِ الْمُلْكِ، وَإِزَاحَةُ الشَّرِّ وَبَسْطُ الْأَمْنِ، وَاسْتِتْبَابُ الرَّاحَةِ، فَجُعِلَ الْجِهَادُ فَرْضًا مَحْتُومًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، إِمَّا كِفَايَةً وَهَذِهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا، وَإِمَّا عَيْنًا إِذَا هَاجَمَ الْعَدُوُّ الْبَلَدَ وَعَمَّ النَّفِيرُ، قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ النَّاسِ بِتَرْكِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ عَامًّا فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ.
فَالْمُسْلِمُ لَا يَخْلُو مِنْ إِحْدَى الْخُطَّتَيْنِ. إِمَّا مُرْتَزِقٌ، وَهُوَ مَنْ دَخَلَ فِي الْعَسْكَرِ وَنَصَبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute