كِتَابِهِ بِأَنَّا لَا نَأْخُذُ مِنْكُمُ الْجِزْيَةَ إِلَّا إِذَا مَنَعْنَاكُمْ وَدَفَعْنَا عَنْكُمْ، وَإِنْ عَجَزْنَا عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَخْذُهَا.
وَهَذِهِ الْمُقَاوَلَاتُ وَالْكُتُبُ مِمَّا ارْتَضَاهَا عُمَرُ وَجُلُّ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا. قَالَ الْإِمَامُ الشَّعْبِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ: أَخَذَ " أَيْ سَوَادَ الْعِرَاقِ " عَنْوَةً وَكَذَلِكَ كُلَّ أَرْضٍ إِلَّا الْحُصُونَ، فَجَلَا أَهْلَهَا فَدُعُوا إِلَى الصُّلْحِ وَالذِّمَّةِ فَأَجَابُوا وَتَرَاجَعُوا فَصَارُوا ذِمَّةً وَعَلَيْهِمُ الْجَزَاءُ وَلَهُمُ الْمَنْعَةُ، وَذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ كَذَلِكَ مَنَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِدَوْمَةٍ.
وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ شَرْطَ الْمَنْعَةِ فِي الْجِزْيَةِ إِنَّمَا كَانَ يُقْصَدُ بِهِ مُجَرَّدُ تَطَيُّبِ نُفُوسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِسْكَانِ غَيْظِهِمْ وَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْعَمَلُ قَطُّ، فَإِنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي سَيْرِ الصَّحَابَةِ، وَاطَّلَعَ عَلَى مَجَارِي أَحْوَالِهِمْ، عَرَفَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا عَهْدًا، وَلَا ذَكَرُوا شَرْطًا إِلَّا وَقَدْ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَأَفْرَغُوا الْجُهْدَ فِي الْوَفَاءِ بِهَا، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُمْ فِي الْجِزْيَةِ الَّتِي يَدُورُ رَحَى الْكَلَامِ عَلَيْهَا - فَقَدْ رَوَى الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَهْلُ الذِّمَّةِ وَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ، وَحُسْنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ، صَارُوا أَشِدَّاءَ عَلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ وَعُيُونًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَبَعَثَ أَهْلُ كُلِّ مَدِينَةٍ رُسُلَهُمْ يُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ الرُّومَ قَدْ جَمَعُوا جَمْعًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، فَأَتَى رُؤَسَاءُ أَهْلِ كُلِّ مَدِينَةٍ الْأَمِيرَ الَّذِي خَلَّفَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَيْهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ وَالِي كُلِّ مَدِينَةٍ مِمَّنْ خَلَّفَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَتَتَابَعَتِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى كُلِّ وَالٍ مِمَّنْ خَلَّفَهُ فِي الْمُدُنِ الَّتِي صَالَحَ أَهْلَهَا يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَا جَبَى مِنْهُمْ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: إِنَّمَا رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ; لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا مَا جُمِعَ لَنَا مِنَ الْجُمُوعِ، وَأَنَّكُمْ قَدِ اشْتَرَطْتُمْ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَكُمْ وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ وَنَحْنُ لَكُمْ عَلَى الشَّرْطِ، وَمَا كَانَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ إِنْ نَصَرَنَا اللهُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لَهُمْ وَرَدُّوا عَلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ الَّتِي جَبَوْهَا مِنْهُمْ قَالُوا: " رَدَّكُمُ اللهُ عَلَيْنَا وَنَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ كَانُوا هُمْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْنَا شَيْئًا وَأَخَذُوا كُلَّ شَيْءٍ بَقِيَ حَتَّى لَا يَدَعُوا شَيْئًا ".
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْبَلَاذُرِيُّ فِي كِتَابِهِ فُتُوحِ الْبُلْدَانِ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ هِرَقْلُ لِلْمُسْلِمِينَ الْجُمُوعَ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ إِقْبَالُهُمْ إِلَيْهِمْ لِوَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ، رَدُّوا عَلَى أَهْلِ حِمْصَ مَا كَانُوا أَخَذُوا مِنْهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ قَالُوا: " قَدْ شُغِلْنَا عَنْ نُصْرَتِكُمْ وَالدَّفْعِ عَنْكُمْ فَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ " فَقَالَ أَهْلُ حِمْصَ: " لَوِلَايَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغُشْمِ، وَلَنَدْفَعَنَّ جُنْدَ هِرَقْلَ عَنِ الْمَدِينَةِ مَعَ عَامِلِكُمْ. وَنَهَضَ الْيَهُودُ فَقَالُوا: وَالتَّوْرَاةِ لَا يَدْخُلُ عَامِلُ هِرَقْلَ مَدِينَةَ حِمْصَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute