وَأَهَمُّ الْمَسَائِلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تَدُورُ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَيْنَ كِبَارِ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَيَتَهَامَسُونَ بِهَا سِرًّا - مَسْأَلَةُ (دَارِ الْإِسْلَامِ) الَّتِي يُفْتَرَضُ عَلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِإِعَادَتِهَا. وَأَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِي أَنْ أُفْشِيَ الْآنَ مِنْ سِرِّهَا مَا يُعِينُ عَلَى تَمْحِيصِهَا، فَأَقُولُ: إِنَّ لَهُمْ فِيهَا أَرْبَعَةَ آرَاءٍ: - (١) الرَّأْيُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَقْرَبُ الْآرَاءِ إِلَى نُصُوصِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ مِنَ الْبِلَادِ فِي مُحِيطِ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ وَنُفِّذَتْ فِيهَا أَحْكَامُهُ وَأُقِيمَتْ شَعَائِرُهُ قَدْ صَارَ مِنْ (دَارِ الْإِسْلَامِ) وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يُدَافِعُوا عَنْهُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا كَانُوا كُلُّهُمْ آثِمِينَ بِتَرْكِهِ، وَأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْأَجَانِبِ عَلَيْهِ لَا يَرْفَعُ عَنْهُمْ وُجُوبَ الْقِتَالِ لِاسْتِرْدَادِهِ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ. فَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ يَجِبُ عَلَى مُسْلِمِي الْأَرْضِ إِزَالَةُ سُلْطَانِ جَمِيعِ الدُّوَلِ الْمُسْتَعْمِرَةِ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَإِرْجَاعُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إِلَيْهَا مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. وَعَجْزُهُمُ الْآنَ عَنْ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ عَنْهُمْ وُجُوبَ تَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِعْدَادِ مَا يُمْكِنُ مِنَ النِّظَامِ وَالْعُدَّةِ لَهُ، وَانْتِظَارِ الْفُرَصِ لِلْوُثُوبِ وَالْعَمَلِ.
وَهَذَا الرَّأْيُ يُوَافِقُ الْقَاعِدَةَ الَّتِي وَضَعَهَا أَحَدُ وُزَرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى فِي الْغَلَبِ وَالسُّلْطَانِ وَهِيَ (مَا أَخَذَ الصَّلِيبُ مِنَ الْهِلَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُوْدَ إِلَى الْهِلَالِ، وَمَا أَخَذَ الْهِلَالُ مِنَ الصَّلِيبِ يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الصَّلِيبِ) .
وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ يَجْرِي الْيَهُودُ الَّذِينَ يُطَالِبُونَ بِإِعَادَةِ مُلْكِ إِسْرَائِيلَ إِلَى بِلَادِ فِلَسْطِينَ، بَلْ هُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِإِعَادَةِ الْمُلْكِ (بِضَمِّ الْمُلْكِ) بَلْ يَطْلُبُونَ جَعْلَ الْمِلْكِ (بِالْكَسْرِ) وَسِيلَةً لَهُ فَهُمْ يُحَاوِلُونَ سَلْبَ رَقَبَةِ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِهَا الْعَرَبِ بِمُسَاعَدَةِ الْإِنْكِلِيزِ.
وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نُنْكِرُ عَلَى الْإِنْكِلِيزِ وَالْيَهُودِ مَا ذُكِرَ، وَنَعُدُّهُ غُلُوًّا وَبَغْيًا وَأَثَرَةَ مِنْهُمْ، وَمِنْ قِلَّةِ الْإِنْصَافِ أَنْ نَرْضَى لِأَنْفُسِنَا مَا نُنْكِرُهُ عَلَى غَيْرِنَا. دَعْ مَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى هَذَا الْمَطْلَبِ الْكَبِيرِ، مِنَ الْغُرُورِ وَالتَّغْرِيرِ.
(٢) الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ (دَارَ الْإِسْلَامِ) مَا كَانَ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ خِلَافَةُ الرَّاشِدِينَ وَالْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ جَمِيعًا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا فَتَحَتْهُ دُوَلُ الْأَعَاجِمِ، وَلَمْ يُنَفَّذْ فِيهِ حُكْمُ خَلِيفَةٍ قُرَشِيٍّ. وَهَذَا الرَّأْيُ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي بُعْدِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ. عَلَى نِزَاعٍ فِي دَلِيلِهِ مِنَ الْمَنْقُولِ.
(٣) الرَّأْيُ الثَّالِثُ: أَنَّ (دَارَ الْإِسْلَامِ) الْحَقَّ هِيَ مَا فُتِحَ فَتْحًا إِسْلَامِيًّا رُوعِيَ فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَجِزْيَتُهُ وَصُلْحُهُ وَتَنْفِيذُ حُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَإِقَامَةُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِذَلِكَ إِلَّا فِيمَا فَتَحَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ طَلَبَ الْمُلْكِ وَالتَّمَتُّعِ بِالسُّلْطَانِ وَالنَّعِيمِ، فَالْوَاجِبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute