للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ أَسَاسَ السِّيَاسَةِ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الدُّوَلِ الْعَزِيزَةِ هُوَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ الْحَقَّ فِي حِمَايَةِ وَطَنِهَا بِحُدُودِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، وَمَا يُعَدُّ سِيَاجًا وَحَرِيمًا لَهُ مِنْ

سَوَاحِلِهِ الْبَحْرِيَّةِ، وَمِنْ طُرُقِ الْمَلَاحَةِ وَالتِّجَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَأَنَّ الْحَرْبَ الَّتِي تُوقَدُ نَارُهَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْحِمَايَةِ، وَمَنْعِ الْعُدْوَانِ هِيَ حَقٌّ وَعَدْلٌ يُقِرُّهُ الْقَانُونُ الدُّوَلِيُّ الْعَامُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَا يُعَدُّ مُنَافِيًا لِلْفَضِيلَةِ وَالْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ بَلْ مُؤَيِّدًا لَهُمَا. وَدُوَلُ الِاسْتِعْمَارِ الْفَاتِحَةُ تَعُدُّ مَا تَتَغَلَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَوْطَانِ سَائِرِ الْأُمَمِ كَوَطَنِ أُمَّتِهَا فِي أَنَّ لَهَا الْحَقَّ فِي حِمَايَتِهِ، وَمَنْعِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى طُرُقِهِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، فَهِيَ تُبِيحُ لِنَفْسِهَا الِاعْتِدَاءَ بِحُجَّةِ مَنْعِ غَيْرِهَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ، كَمَا فَعَلَتِ انْكِلْتِرَهْ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى مِصْرَ فَالسُّودَانِ، وَمِنْ قَبْلِهِمَا عَلَى عَدَنٍ بِحُجَّةِ حِمَايَةِ طَرِيقِ الْهِنْدِ الَّتِي اعْتَدَتْ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ، وَبَعْدَ هَذَا وَذَاكَ اعْتَدَتْ عَلَى الْعِرَاقِ وَفِلَسْطِينَ وَشَرْقِ الْأُرْدُنِّ مِنَ الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ، ثُمَّ امْتَدَّ طَمَعُهَا إِلَى الْحِجَازِ نَفْسِهِ، وَهُوَ قَلْبُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْمَادِّيُّ، وَقَلْبُ الْإِسْلَامِ الْمَعْنَوِيُّ، بِجَعْلِ أَهَمِّ ثُغُورِهِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْجُغْرَافِيَّةِ (الْعَقَبَةَ) وَأَهَمِّ مَوَاقِعِ سِكَّةِ الْحَدِيدِ الْحِجَازِيَّةِ فِيهِ (مَعَانٍ) وَمَا بَيْنَهُمَا تَابِعًا لِشَرْقِيِّ الْأُرْدُنِّ الَّذِي وَضَعَتْهُ تَحْتَ سَيْطَرَتِهَا بِاسْمِ الِانْتِدَابِ، دَعْ ذِكْرَ الْخَطِّ الْحَدِيدِيِّ الْمُمْتَدِّ مِنْ حُدُودِ الْحِجَازِ إِلَى حِيفَا، فَبِهَذَا انْتَهَكَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ حُرْمَةَ الْحِجَازِ الْمُقَدَّسَةَ.

وَبِهَذَا صَارَ الْحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ تَحْتَ رَحْمَةِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ الْبَاغِيَةِ مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَصَارَتْ هَذِهِ الْبَقِيَّةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ عَلَى خَطَرٍ، فَإِنْ تَمَّ لِهَذِهِ الدَّوْلَةِ الْبَاغِيَةِ هَذَا فَسَتَمُدُّ سِكَّةً حَدِيدِيَّةً تِجَارِيَّةً فِي الظَّاهِرِ عَسْكَرِيَّةً فِي الْبَاطِنِ مِنَ الْعَقَبَةِ إِلَى الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَقُولُ عِنْدَ سُنُوحِ الْفُرْصَةِ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ وُجُودَ قُوَّةٍ إِسْلَامِيَّةٍ فِيهِمَا يُهَدِّدُ سِكَّةَ الْحَدِيدِ الْبِرِيطَانِيَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْأَمْنِ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِزَالَةِ كُلِّ قُوَّةٍ إِسْلَامِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ مِنْ سَائِرِ الْحِجَازِ أَوْ جَعْلِ الْقُوَّةِ الْمُحَافِظَةِ عَلَى الْأَمْنِ مِنْ تَحْتِ إِشْرَافِهَا وَنُفُوذِهَا.

وَلَوْ كَانَ فِي الْحِجَازِ سُكَّانٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَفَتَحَتْ لِنَفْسِهَا بَابَ التَّدَخُّلِ فِي أَمْرِ حُكُومَتِهِ بِحُجَّةِ حِمَايَةِ هَؤُلَاءِ السُّكَّانِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا مِنَ النَّصَارَى كَمَا انْتَحَلَتْ لِنَفْسِهَا حَقَّ حِمَايَةِ الْأَقَلِّيَّاتِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمِصْرَ، وَكَمَا فَعَلَتْ فِي إِعْطَاءِ

الْيَهُودِ حَقَّ تَأْسِيسِ وَطَنٍ قَوْمِيٍّ لَهُمْ فِي فِلَسْطِينَ، وَفِي حِمَايَتِهِمْ فِيهَا بَلْ إِعَانَتِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْعَرَبِ وَأَكْثَرُهُمْ مُسْلِمُونَ، وَكَمَا خَلَقَتْ فِي الْعِرَاقِ أَقَلِّيَّةً مِنْ بَقَايَا الْأَشُورِيِّينَ، وَإِنْ تَمَّ لَهَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مِنْطَقَةِ الْعَقَبَةِ وَمَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ فَسَتَجْعَلُ جُلَّ مَالِكِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ فِيهَا مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; لِيَكُونَ لَهَا مِنْ حَقِّ الْحُكْمِ فِيهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>