أَدْرَكْتُ مَشَايِخَنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ فِي الْفُتْيَا أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، إِلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيِّنًا بِلَا تَفْسِيرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ السَّائِبِ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، وَكَانَ أَفْضَلَ التَّابِعِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ إِنَّ اللهَ أَحَلَّ هَذَا أَوْ رَضِيَهُ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: لَمْ أُحِلَّ هَذَا وَلَمْ أَرْضَهُ - وَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحَرِّمْهُ، وَلَمْ أَنْهَ عَنْهُ. وَحَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَفْتَوْا بِشَيْءٍ أَوْ نَهَوْا عَنْهُ قَالُوا هَذَا مَكْرُوهٌ وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. فَأَمَّا أَنْ نَقُولَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ فَمَا أَعْظَمَ هَذَا " اهـ. وَلَمْ
يُنْكِرْ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَذَا النَّقْلَ وَلَا مَضْمُونَهُ، بَلْ أَقَرَّهُ وَمَا كَانَ لِيُقِرَّ مِثْلُهُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ.
وَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَنِ السَّلَفِ هُوَ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ وَكِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ. فَأَمَّا السُّنَّةُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ فَأَقْوَى الْحُجَجِ فِيهِمَا مَا عُلِمَ نَصًّا وَعَمَلًا مِنْ عَدَمِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تَحْرِيمًا عَامًّا تَشْرِيعِيًّا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ دِلَالَةً ظَنِّيَّةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (٢: ٢١٩) بَلْ تَرَكَ الْأَمْرَ فِيهَا لِاجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فَمَنْ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ التَّحْرِيمَ تَرَكَهُمَا، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ ظَلَّ عَلَى الْأَخْذِ بِالْإِبَاحَةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا أَوِ اعْتِقَادًا فَقَطْ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ الَّذِي ظَلَّ يُرَاجِعُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي ذَلِكَ وَيَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَاتُ الْمَائِدَةِ الْقَطْعِيَّةُ الدِّلَالَةِ كَمَا بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِهَا، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ فَمِنَ النَّقْلِ الْعَامِّ عَنْهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَمِنْهُ النُّصُوصُ الْخَاصَّةُ الْكَثِيرَةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يَرَوْنَ حَظْرَهَا وَالتَّعْبِيرَ عَمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ مِنْهَا بِمِثْلِ أَكْرَهُ كَذَا، أَوْ لَا أَرَاهُ، أَوْ لَا أَفْعَلُهُ وِفَاقًا لِمَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ التَّابِعِينِ. وَلَكِنْ قَسَّمَ بَعْضُ أَتْبَاعِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ مَا كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِكَرَاهَتِهِ إِلَى كَرَاهَةِ تَحْرِيمٍ وَكَرَاهَةِ تَنْزِيهٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ التَّحْرِيمَ هُوَ الْأَصْلَ الْمُرَادَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ الْفُرُوعِ فِي بَيَانِ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، وَقَوْلُهُ: لَا يَنْبَغِي، أَوْ لَا يَصِحُّ، أَوْ أَسْتَقْبِحُهُ، أَوْ هُوَ قَبِيحٌ، أَوْ لَا أَرَاهُ - لِلتَّحْرِيمِ اهـ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ احْتِيَاطِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاتِّقَائِهِ تَحْرِيمَ شَيْءٍ عَلَى عِبَادِ اللهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَطْعِيَّةٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَتَسَاهُلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ وَتَشْدِيدِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَأَحْمَدُ اللهَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ لِلتَّحْرِيمِ، فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مُفْلِحٍ نَفْسُهُ قَوْلًا آخَرَ مُسْتَنَدُهُ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي عَدَمِ
التَّحْرِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي " أَكْرَهُ " أَوْ " لَا يُعْجِبُنِي "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute