وَالزُّهْدِ عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ فَسُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْهُ وَعَنْ كُتُبِهِ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: إِيَّاكَ وَهَذِهِ الْكُتُبُ، بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ، عَلَيْكَ بِالْأَثَرِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ هَذِهِ الْكُتُبِ، قِيلَ لَهُ: فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عِبْرَةٌ. فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ عِبْرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ عِبْرَةٌ - بَلَغَكُمْ أَنَّ مَالِكًا أَوِ الثَّوْرِيَّ أَوِ الْأَوْزَاعِيَّ أَوِ الْأَئِمَّةَ صَنَّفُوا كُتُبًا فِي الْخَطَرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ خَالَفُوا أَهْلَ الْعِلْمِ، يَأْتُونَنَا مَرَّةً بِالْمُحَاسِبِيِّ وَمَرَّةً بِعَبْدِ الرَّحِيمِ الدُّبَيْلِيِّ،
وَمَرَّةً بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ - ثُمَّ قَالَ - مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى الْبِدَعِ. وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سَمِعَ كَلَامَ الْمُحَاسِبِيِّ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: مَا سَمِعْتُ فِي الْحَقَائِقِ مِثْلَ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَا أَرَى لَكَ صُحْبَتَهُمُ انْتَهَى. مِنْ تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، وَتَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ (قُلْتُ) إِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ صُحْبَتِهِمْ لِعِلْمِهِ بِقُصُورِهِ عَنْ مَقَامِهِمْ، فَإِنَّهُ مَقَامٌ ضَيِّقٌ لَا يَسْلُكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَيُخَافُ عَلَى مَنْ يَسْلُكُهُ أَلَّا يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ اهـ.
فَإِذَا صَحَّ هَذَا التَّعْلِيلُ الَّذِي قَالَهُ الْحَافِظُ فِي بَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ خِيَارِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، أَفَلَا يَكُونُ غَيْرُهُمْ كَدَجَاجِلَةِ هَذَا الزَّمَانِ وَعَوَامِّهِ أَوْلَى بِأَلَّا يَنْظُرُوا فِي كُتُبِ مَنْ لَا يُعَدُّونَ مِنْ طَبَقَةِ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، بِحَيْثُ إِنَّ إِمَامَ السُّنَّةِ الْأَعْظَمَ فِي عَصْرِهِ (أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ) لَمْ يُنْكِرْ شَيْئًا مِمَّا سَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ هُوَ وَأَبُو زُرْعَةَ ; لِأَنَّهُ شَيْءٌ جَدِيدٌ مُبْتَدَعٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ، يَشْغَلُ النَّاظِرَ فِيهِ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَنَهَى عَنْ صُحْبَتِهِمْ لِذَلِكَ أَوْ لِضِيقِ مَسْلَكِهِمْ، وَكَوْنِهِ لَا يَفْهَمُهُ وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ كَمَا عَلَّلَهُ الْحَافِظُ.
فَمَا الْقَوْلُ بَعْدَ هَذَا بِكُتُبِ مَنْ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلِ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُصَادِمَةِ لِلنُّصُوصِ، كَمُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ الَّذِي يَقُولُ فِي خُطْبَةِ فُتُوحَاتِهِ:
الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ الْمُكَلَّفْ
إِنْ قُلْتَ عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ ... أَوْ قُلْتَ رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفْ
وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ أَسَاسَ التَّكْلِيفِ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الصُّورَةِ، وَمِنْ شِعْرِهِ فِي دِيوَانِهِ:
وَمَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ إِلَّا إِلَهُنَا
فَهَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَهُ وَكَلَامَ أَمْثَالِهِ حُجَّةً وَيَتَّخِذَهُ قُدْوَةً فِي عَقِيدَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَيَدْعُوَ الْعَامَّةَ إِلَى ذَلِكَ؟ وَنَحْنُ نَرَى الْمَفْتُونِينَ بِهِ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّهِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ إِلَّا لِأَهْلِهَا مِنَ الْعَارِفِينَ بِرُمُوزِ
الصُّوفِيَّةِ وَإِشَارَاتِهِمُ الْخَفِيَّةِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّعْرَانِيُّ، وَهُوَ أَشْهَرُ دَاعِيَةٍ فِي عَصْرِهِ إِلَى خُرَافَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ سَأَلَ شَيْخَهُ فِي التَّصَوُّفِ عَلِيًّا الْخَوَّاصَ: لِمَاذَا يَتَأَوَّلُ الْعُلَمَاءُ مَا يَشْكُلُ ظَاهِرُهُ مِنْ نُصُوصِ