للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَزْرِهِمْ، فَمَاذَا تُنْكِرُ بَعْدَ هَذَا مِنْ تَسْخِيرِ زَنَادِقَتِهِمْ وَمَلَاحِدَتِهِمْ. وَمَاذَا يُفِيدُ الْمُسْلِمُ مِنْ قِرَاءَةِ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْ تَفْسِيرِ عُلَمَاءِ الْأَلْفَاظِ وَالرِّوَايَاتِ لَهَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَضْمُونَهَا التَّفْصِيلِيَّ الْعَمَلِيَّ فِي عَصْرِهِ، وَيَسْعَى لِتَدَارُكِ خَطْبِهِ؟ وَإِنَّمَا فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهَا لِتَفْنِيدِ تِلْكَ الدِّعَايَةِ، وَنَقْضِ تِلْكَ الْمُصَنَّفَاتِ بِالْإِجْمَالِ، وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا يَسْتَمِدُّونَ مِنْهُ التَّفْصِيلَ.

هَذَا وَإِنَّ أَشَدَّ طُرُقِهِمْ فِي الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَظَاعَةً وَقُبْحًا وَإِهَانَةً لَهُوَ الطَّعْنُ فِي النَّبِيِّ الْأَعْظَمِ وَالْقُرْآنِ، وَأَشَرُّ مِنْهُ وَأَضَرُّ تَعْلِيمُ الْمَدَارِسِ الَّتِي يُفْسِدُونَ عَقَائِدَ النَّشْءِ الَّذِي يَتَرَبَّى وَيَتَعَلَّمُ فِيهَا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ مُسْلِمِي الْأَمْصَارِ لَا يَعْقِلُونَ كُنْهَ مَفَاسِدِهَا، وَسُوءَ عَاقِبَتِهَا فِي الدِّينِ وَالْأَدَبِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِقْلَالِهَا.

ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي الْكَثِيرِ مِنَ

الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَسَيَأْتِي نَصُّهُ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، وَعَنْهُ أَنَّهَا عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ، فَهُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ كَنْزِهَا وَجَمْعِهَا وَالِامْتِنَاعِ مِنْ إِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ يُنْفِقُونَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِحَالِ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، الَّذِينَ صَارَ جَمْعُ الْأَمْوَالِ وَالِافْتِتَانُ بِكَثْرَتِهَا وَخَزْنِهَا فِي الصَّنَادِيقِ وَاسْتِغْلَالِهَا فِي الْمَصَارِفِ (الْبُنُوكِ) أَعْظَمَ هَمِّهِمْ فِي الْحَيَاةِ ; لِأَنَّهُمْ فَقَدُوا لَذَّةَ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ - تَحْذِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِخْلَادِ إِلَى هَذِهِ السَّفَالَةِ. وَسَيَأْتِي عَنْ أَبِي ذَرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهَا فِينَا وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; فَإِنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ جَرَيَانُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ، وَأُولَئِكَ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ يَدْخُلُونَ فِيهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ بِدِلَالَةِ السِّيَاقِ ; لِأَنَّهُمْ هَبَطُوا فِي الْمَطَامِعِ الْمَادِّيَّةِ إِلَى أَسْفَلِ الدِّرَكَاتِ.

وَالْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الشَّيْءِ وَرَصُّهُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ كَنِيزُ اللَّحْمِ وَمُكْتَنِزُهُ أَيْ صُلْبُهُ وَشَدِيدُهُ، وَكَنَزْتُ الْحَبَّ فِي الْجِرَابِ فَاكْتَنَزَ فِيهِ، وَكَنَزْتُ الْجِرَابَ إِذَا مَلَأْتُهُ جِدًّا قَالَهُ فِي الْأَسَاسِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْكَنْزُ جَعْلُ الْمَالِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَحِفْظُهُ وَأَصْلُهُ مِنْ كَنَزْتُ التَّمْرَ فِي الْوِعَاءِ إِلَخْ.

وَالْمُرَادُ بِالْكَنْزِ هُنَا خَزْنُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي الصَّنَادِيقِ أَوْ دَفْنُهَا فِي التُّرَابِ وَإِمْسَاكُهَا، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِامْتِنَاعِ عَنْ إِنْفَاقِهَا فِيمَا شَرَعَهُ اللهُ مِنَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ فِي آيَةِ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ (٦٠) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي يُنْفِقُونَهَا وَمَا قَبْلَهُ مُثَنًّى ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّهَبِ الدَّنَانِيرُ وَبِالْفِضَّةِ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا جِنْسُ الذَّهَبِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>