للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٢: ٤٠ - ٤٣) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ لِلْمُسِيءِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ فَضْلُهُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِبْدَالِ الْمَوَدَّةِ بِالْعَدَاوَةِ، فِي مَكَانِ الْإِغْرَاءِ بِالتَّعَدِّي وَدَوَامِ الظُّلْمِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٤١: ٣٤، ٣٥) فَانْظُرْ كَيْفَ بَيَّنَ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ وَدَرَجَاتِهِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ. وَكَيْفَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ، أَفَلَيْسَ هَذَا الْإِصْلَاحُ الْأَعْلَى عَلَى لِسَانِ أَفْضَلِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْشِدِينَ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فَكَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.

(الثَّانِيَةُ) مُبَالَغَةُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَمْرِ بِتَرْكِهَا وَذَمِّ الْغَنِيِّ، حَتَّى جَعَلَ دُخُولَ الْجَمَلِ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ أَيْسَرَ مِنْ دُخُولِ الْغَنِيِّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَسَابِقَتَهَا إِنَّمَا كَانَتَا إِصْلَاحًا مُوَقَّتًا لِإِسْرَافِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّهِمْ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ حَتَّى أَفْسَدَ أَخْلَاقَهُمْ وَآثَرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَالْغُلُوُّ يُقَاوَمُ مُوَقَّتًا بِضِدِّهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ دَوْلَةُ الرُّومَانِ السَّالِبَةُ لِاسْتِقْلَالِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ دَوْلَةً مُسْرِفَةً فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ دِينُ الْبَشَرِ الْعَامُّ الدَّائِمُ، فَلَا يُقَرَّرُ فِيهِ إِلَّا مَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَمَّ اسْتِعْمَالَ الْمَالِ فِيمَا يَضُرُّ مِنَ الْإِسْرَافِ

وَالطُّغْيَانِ وَذَمَّ أَكْلَهُ بِالْبَاطِلِ وَمَنْعَ الْحُقُوقِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَالْبُخْلَ بِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَمَدَحَ أَخْذَهُ بِحَقِّهِ، وَبَذْلَهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْفَاقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُعِزُّ الْمِلَّةَ وَيُقَوِّي الْأُمَّةَ وَيَكُونُ عَوْنًا لَهَا عَلَى حِفْظِ حَقِيقَتِهَا وَاسْتِقْلَالِهَا - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، فِيمَا أَوْحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا كَانَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَصِلَ بِعَقْلِهِ إِلَى أَمْثَالِ هَذَا الْإِصْلَاحِ لِتَعَالِيمِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ بِهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ وَلِكُتُبِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا، فَهَلِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ! .

وَعَلَى ذِكْرِ الْفَلَاسِفَةِ أَذْكُرُ شُبْهَةً لِمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَى الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الدِّينِيَّةِ، يَلُوكُونُهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُونَ فَسَادَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْكَمَالَ الْبَشَرِيَّ أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَا لِعِلَّةٍ، وَيَعُدُّونَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِلَلِ أَنْ يَعْمَلَهُ رَجَاءً فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا، وَمَعْنَى هَذَا إِنْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّ مَنْ يَقْصِدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>