للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمَعْرُوفَةِ لِلْبَشَرِ وَهِيَ أَقَلُّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَدَلَّهَا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى اخْتِيَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَمَا يَخْلُقُ، وَكَوْنِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ غَيْرَ مُقَيَّدَتَيْنِ بِسُنَنِ الْخَلْقِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْكَوْنِ، فَالسُّنَنُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِتْقَانِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَقَدْ يَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى مِنْ حِكَمِهِ الْبَالِغَةِ، وَلَوْلَا هَذَا الِاخْتِيَارُ لَكَانَ الْعَالَمُ كَالْآلَاتِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ بِنِظَامٍ دَقِيقٍ لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا إِرَادَةَ وَلَا اخْتِيَارَ فِيهِ. كَآلَةِ السَّاعَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا أَوْقَاتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَآلَاتِ الْبَوَاخِرِ وَالْمَعَامِلِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمَادِّيُّونَ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُ الْعِلَّةَ الْفَاعِلَةَ لِلْوُجُودِ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا النِّظَامِ بِنَظَرِيَّةِ (الْمِيكَانِيكِيَّةِ) وَهُمْ يَتَكَلَّفُونَ اخْتِرَاعَ الْعِلَلِ

وَالْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَا يَرَوْنَهُ مُخَالِفًا لِسُنَنِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَيَقِيسُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَعْلِيلُهُ عَلَى مَا اقْتَنَعُوا بِتَعْلِيلٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُثْبِتُهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الْيَوْمَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا غَدًا.

سُنَنُ اللهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ:

وَنَحْنُ مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ جُنْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ، وَمَا لَهُمْ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ الْمَادِّيِّ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سُنَنًا فِي نِظَامِ ذَلِكَ الْعَالَمِ غَيْرَ سُنَنِهِ الْخَاصَّةِ بِعَالَمِ الْمَادَّةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَلْقَةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ.

فَجَسَدُهُ وَوَظَائِفُهُ الْحَيَوِيَّةُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي عَالَمِ الْجَسَدِ الْمَادِّيِّ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَارِكِهِ تَكُونُ مَشْغُولَةً مِنَ الْمَادَّةِ وَسُنَنِهَا وَحَاجَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ مِنْهَا بِمَا يَحْجُبُهُ عَنْ عَالَمِ الرُّوحِ الْغَيْبِيِّ حَتَّى رُوحِهِ الْمُتَمِّمِ لِحَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الظُّهُورُ وَالسُّلْطَانُ لِلرُّوحِ عَلَى الْجَسَدِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنِ اصْطَفَى اللهُ تَعَالَى مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، فَأَعَدَّهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لِلِاتِّصَالِ بِمَلَائِكَتِهِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ لِيُبَلِّغُوا عِبَادَهُ عَنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.

الْغَيْبُ قِسْمَانِ حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ:

الْغَيْبُ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ يُعْلِمُهُ بَعْضَ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَسْبَابٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَمَنْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ رُسُلِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسْبٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ غَيْرِ الْمُكْتَسَبَةِ.

وَمِنْ دُونِهِمْ أَفْرَادٌ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ بِانْكِشَافِ

<<  <  ج: ص:  >  >>