للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ بِلَادِ أُورُبَّةَ وَأَمْرِيكَةَ، وَلَعَلَّهُ دُونَ مَا فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْقُرَى وَهَمَجِ الزُّنُوجِ وَغَيْرِهِمْ.

بَيْدَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُعْجِزَاتِ، هِيَ فَوْقَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الْغَرِيبَةِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِنَّ مَا أَيَّدَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا عَمَلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرِهِمْ حَتَّى مَا يَكُونُ بَدْؤُهُ بِحَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ يَأْمُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا، أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَحَوَّلَتْ عَصَاهُ حَيَّةً تَسْعَى، فَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْهَا، حَتَّى هَدَّأَ اللهُ رَوْعَهُ وَأَمَّنَ خَوْفَهُ؟ أَوَلَمْ تَقْرَأْ قَوْلَهُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (٨: ١٧) ؟ أَوَلَمْ تَفْهَمْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (١٧: ٩٣) وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) (٢٩: ٥٠) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.

جَهِلَ هَذَا الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنْ سَدَنَةِ الْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ وَغَيْرِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أُمُورٌ كَسَبِيَّةٌ كَالصِّنَاعَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ مَتَى شَاءُوا، وَيُغْرُونَ النَّاسَ بِإِتْيَانِ قُبُورِهِمْ وَلَوْ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا لِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالشَّدَائِدِ، الَّتِي يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهَا بِكَسْبِهِمْ وَكَسْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ كَالْأَطِبَّاءِ مَثَلًا، وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا سُحْتًا حَرَامًا، وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَجْسَادِهِمْ وَيَتَوَلَّوْنَ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ، وَكَشْفَ الْكُرُبَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابٍ مَطْبُوعٍ: إِنَّ فُلَانًا مِنَ الْأَقْطَابِ يُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ:

أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُؤَيِّدْ رُسُلَهُ بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا لِتَكَوُّنَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ يَهْدِي بِهَا الْمُسْتَعِدَّ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقُّ بِهَا الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ فَتَقَعُ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِظْهَارِهَا، فَهُوَ وَاجِبٌ لِإِتْمَامِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ الَّتِي أُرْسِلُوا لِتَبْلِيغِهَا، وَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ غَيْرِ حُجَّةِ الرِّسَالَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَكَانَ خَاتَمُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى يَصْبِرُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا يَدْعُو لَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا نَادِرًا، وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهَا بِالشِّفَاءِ فَأَرْشَدَهَا إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مُصِيبَتِهَا خَيْرٌ لَهَا. فَشَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَتَكَشَّفُ عِنْدَ النَّوْبَةِ وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>