للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْأَصْلُ فِي الْكَرَامَةِ الْإِخْفَاءُ وَالْكِتْمَانُ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ظُهُورُهَا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَمَا كَانَ أَهْلُهَا يُظْهِرُونَ مَا لَهُمْ كَسْبٌ فِيهِ مِنْهَا كَالْمُكَاشِفَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْعُلَمَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعَامَّةِ.

قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي سِيَاقِ حُجَجِ مُنْكِرِي جَوَازِ وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ مِنْ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ: (الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَتِ الْكَرَامَةُ لَاشْتَبَهَتْ بِالْمُعْجِزَةِ، فَلَا تَدُلُّ الْمُعْجِزَةُ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: مَنْعُ الِاشْتِبَاهِ، بِقَرْنِ الْمُعْجِزَةِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، دُونَ الْكَرَامَةِ فَهِيَ إِنَّمَا تَقْتَرِنُ بِكَمَالِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ مِنَ الْوَلِيِّ - وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا الِاشْتِهَارُ، وَالْكَرَامَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلَا تَظْهَرُ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ وَالْخُصُوصِ، لَا عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعُمُومِ، وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِجَمِيعِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْكَرَامَةُ تَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ. ثُمَّ قَالَ:

(الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَ ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى أَيْدِي الصَّالِحِينَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِظُهُورِهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ، لِجَوَازِ أَنْ تَظْهَرَ عَلَى يَدِ الْوَلِيِّ سِرًّا، فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مُعْظَمِ جَمَاعَتِكُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ لَا يُظْهِرُونَ الْكَرَامَاتِ وَلَا يَدْعُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ سِرًّا وَرَاءَ سُتُورٍ، وَيَتَخَصَّصُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا آحَادُ النَّاسِ،

وَيَكُونُ ظُهُورُهَا سِرًّا مُسْتَمِرًّا بِحَيْثُ لَا يَلْتَحِقُ بِحُكْمِ الْمُعْتَادِ، فَإِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ وَتَحَدَّى بِمُعْجِزَةٍ، جَازَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا اعْتَادَهُ أَوْلِيَاءُ عَصْرِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ خَرْقُ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ فِي حَقِّهِ؟ وَأَيْضًا تَكَرُّرُ الْكَرَامَةِ يُلْحِقُهَا بِالْمُعْتَادِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَصْحِيحِ النَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَةِ إِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ فِي زَمَنِهِمْ))

وَقَالَ فِي الْجَوَابِ: لِأَئِمَّتِنَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ مَنْعُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَاسْتِمْرَارُهَا حَتَّى تَصِيرَ فِي حُكْمِ الْعَوَائِدِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ظُهُورُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا تَصِيرُ عَادَةً فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ وَالثَّانِي - وَهُوَ لِمُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا - قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ وَلَا يَشِيعُ وَلَا يُعْتَادُ، لِئَلَّا تَخْرُجَ الْكَرَامَاتُ عَنْ كَوْنِهَا كَرَامَاتٍ. انْتَهَى مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّانِي.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يُوَافِقُونَ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى مَنْعِ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَتَكْرَارِهَا، وَمَنْعِ إِظْهَارِهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ: إِنَّ مَا يَتَكَرَّرُ لَا يَكُونُ كَرَامَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً، وَإِنَّمَا الْكَرَامَةُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الرِّفَاعِيُّ إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْكَرَامَةِ كَمَا تَسْتَتِرُ الْمَرْأَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِمَّا عَلَيْهِ الدَّجَّالُونَ الْخُرَافِيُّونَ وَسَدَنَةُ الْقُبُورِ الْمُعْتَقِدَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْكَرَامَةَ الْوَاحِدَةَ تَتَكَرَّرُ لِأَوْلِيَاءَ كَثِيرِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَكُلُّهَا ظَاهِرَةٌ ذَائِعَةٌ شَائِعَةٌ، بَلْ صِنَاعَةٌ ذَاتُ بِضَاعَةٍ رَابِحَةٍ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>