للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَتْ كَاتِبَةُ الرِّسَالَةِ: إِنَّ أَهْلَ عَمَّانَ لَمَّا عَلِمُوا بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَقَبَلَ النَّاسُ مِنْ وَطَنِيِّينَ وَأَجَانِبَ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ فَشَاهَدُوا هَذَا الرَّسْمَ وَعُنِيَ الْأَطِبَّاءُ بِإِزَالَتِهِ فَعَجَزُوا، وَإِنَّ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا يُعَدُّونَ بِالْمِئَاتِ، ثُمَّ نَقَلَتْ عَنْ قِسِّيسٍ مَعْرُوفٍ جَاءَ مِنْ نَابْلُسَ وَكَتَبَ عَنْهَا مَا يَأْتِي مُلَخَّصًا:

(قَالَتْ إِنَّهُ ظَهَرَ لَهَا الْمَلَاكُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ السَّابِعَةِ مِنَ الشَّهْرِ نَفْسِهِ (يَنَايِرَ) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبِينِهَا فَزَالَتِ الْعَلَامَةُ، فَقَالَتْ لَهُ يَارَبِّ ارْفَعِ الضَّيِّقَ عَنِ الْعَالَمِ، فَقَالَ: ((سَيَرَوْنَ)) أَعْمَالَ اللهِ)) قَالَتْ: ارْحَمْنَا يَا رَبِّ، قَالَ: ((تَكْفِيكُمْ نِعْمَتِي)) وَفِي ثَانِي لَيْلَةٍ أَفَاقَ أَهْلُهَا فَوَجَدُوهَا وَاقِفَةً تَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرَانِيِّ فَكَتَبُوا مَا قَالَتْهُ وَتَرْجَمُوهُ بِالنَّهَارِ فَإِذَا هُوَ تَسْبِيحٌ وَتَمْجِيدٌ لِلَّهِ ثُمَّ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي اللَّيَالِي التَّالِيَةِ بِاللُّغَاتِ الْأَلْمَانِيَّةِ وَالْفَرَنْسِيَّةِ وَالطَّلْيَانِيَّةِ وَفِي الْخَامِسَةِ وَثُلُثٍ بِالْعَرَبِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، وَكَانَتْ تَرْتِيلَةُ الْعَرَبِيِّ مِنْ نَظْمِهَا وَقَوْلِهَا ((اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِي يَا رَبِّي، خُذْنِي يَا رَبِّي، خُذْنِي إِلَى أُورْشَلِيمَ)) ثُمَّ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ. إِلَّا أَنَّ الْمَلَاكَ ظَهَرَ لَهَا لَيْلَةَ ١٧ مِنَ الشَّهْرِ وَوَضَعَ عَلَيْهَا الْعَلَامَةَ وَقَالَ: ((لِتَكُنْ هَذِهِ الْعَلَامَةُ مُبَارَكَةً ثُمَّ اخْتَفَى، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَمَحَا الْعَلَامَةَ. انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ وَبِلَفْظِهِ إِلَّا تَصْحِيحَ كُلَيْمَاتٍ قَلِيلَةٍ.

(أَقُولُ) سُئِلَ بَعْضُ أُدَبَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَمَّانَ كِتَابَةً عَنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ، وَعَمَّا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ مِنْ رُؤْيَةِ مَوْتَى مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ وَلَا لَفَائِفُهُمْ فَأَنْكَرَهَا. وَقَدْ سَبَقَ لِي تَحْقِيقٌ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ مُلَخَّصُهُ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تَخَيُّلٌ وَلَّدَتْهُ الْأَوْهَامُ يُشْبِهُ الرُّؤَى وَالْأَحْلَامَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ رُؤْيَةٌ لِشَيْءٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ بِأَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ جِدًّا لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ التَّجَرُّدِ مِنْ كَثَافَةِ الْحِسِّ، وَمِنْهَا مَا يَتَمَثَّلُ بِصُورَةٍ مَادِّيَّةٍ كَثِيفَةٍ كَمَا صَحَّ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - لِلْمَلَكِ

وَلِلْجِنِّ، وَالْمُشْتَغِلُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِمُعَالَجَةِ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ يُسَمُّونَ صَاحِبَ الِاسْتِعْدَادِ الْخَاصِّ لِرُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ بِالْوَسِيطِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ أُولُو كَذِبٍ وَحِيَلٍ وَتَلْبِيسٍ، وَأَنَّ أَقَلَّهُمْ يَرَوْنَ بَعْضَ الشَّيَاطِينِ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ، وَلَا سِيَّمَا شَيَاطِينِ الْمَوْتَى وَقُرَنَائِهِمُ الْعَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِمْ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ يَقُولُ مَا قَرَأْتَ آنِفًا، وَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وُقُوعَهُ لِكِبَارِ شُيُوخِهِمْ، بَلْ أَثْبَتُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَرَاءَى لَهُمْ وَيُلَقِّنُهُمْ كَلَامًا مُدَّعِيًا أَنَّهُ رَبُّهُمْ، كَمَا حَكَاهُ الشَّعَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْقُطْبَ الْغَوْثَ الْأَكْبَرَ.

وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ رَأَى نُورًا عَظِيمًا مَلَأَ الْأُفُقَ وَسَمِعَ مِنْهُ صَوْتًا يُخَاطِبُهُ بِأَنَّهُ رَبُّهُ وَقَدْ أَحَلَّ لَهُ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَالَ لَهُ: اخْسَأْ يَا لِعَيْنُ، فَتَحَوَّلَ النُّورُ ظَلَامًا وَدُخَانًا، وَقَالَ لَهُ قَدْ نَجَوْتَ مِنِّي بِفَقِهِكَ إِلَخْ. وَأَنَّهُ فَتَنَ بِهَذَا كَثِيرِينَ مِنْ كِبَارِ الشُّيُوخِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ قَدِ ادَّعَوْا أَنَّ اللهَ خَاطَبَهُمْ بِالْحَقَائِقِ وَكَشَفَ لَهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ يَكْشِفْهُ لِغَيْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُمْ يَتَعَارَضُونَ فِي دَعَاوِيهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>