وَمِنَ الْوَعِيدِ الْعَامِّ لِلْكُفَّارِ كُلِّهِمْ فِي وَسَطِ الْمُفَصَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْجِنِّ مِنْ تَبْلِيغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّعْوَةَ: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) (٧٢: ٢٤ و٢٥) إِلَخْ. وَهَذَا بَعْدَ الْوَعْدِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (٧٢: ١٦) .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَلَا فِي أَوْسَطِهَا عَشْرُ سُوَرٍ نَاطِقَةٍ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الدُّنْيَوِيَّيْنِ فَتَكُونَ هِيَ الْمُرَادَّةَ بِالتَّحَدِّي.
وَأَمَّا طِوَالُ الْمُفَصَّلِ فَفِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الْمُبْهَمِ فِي سُوَرِ الذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ ; بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللهُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا،
ثُمَّ فِي سُوَرِ الْمُلْكِ وَالْقَلَمِ وَالْحَاقَّةِ وَالْمَعَارِجِ، وَمَجْمُوعُ مَا فِيهِ يَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ، إِنْ أُرِيدَ التَّحَدِّي بِهَا أَوْ دُخُولُهَا فِيمَا يُتَحَدَّى بِهَا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الصَّرِيحُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي هُوَ الْأَحْرَى بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِمَّا فَوْقَ الْمُفَصَّلِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ كَالَّذِي قَبْلَهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ تَخْصِيصُ التَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ ; لِأَنَّهُ مُشْتَرِكٌ مَعَ الَّذِي بَعْدَهُ فِي سُوَرِهِ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ لِذَاتِهِ إِلَّا بِوُقُوعِهِ.
وَجْهُ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ:
وَأَمَّا قِصَصُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا حِكْمَةُ التَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ عَلَى أَتَمِّهَا وَأَكْمَلِهَا مِنَ الْوُجُوهِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَكُونُ الْعَجْزُ عَنْ مُعَارَضَتِهَا أَقْوَى حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - لَا مُفْتَرَاةً مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، وَلَا مِمَّا أَعَانَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ كَمَا تَصَوَّرُوا وَزَوَّرُوا، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ مِثْلِهَا عَامٌّ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ، عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُهُ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً مُسْتَهْدَفِينَ بِاتِّبَاعِهِ لِلْإِيذَاءِ وَالِاضْطِهَادِ، وَلَوْلَا الْإِيمَانُ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِمْ لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَمَلٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَأَيُّ بَاعِثٍ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّعَاوُنِ مَعَهُ عَلَى تَزْوِيرِ كِتَابٍ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - يُعَادُونَ بِهِ كُبَرَاءَ قَوْمِهِمْ وَعَصَبِيَّةَ أُمَّتِهِمْ بِمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ كَلِمَتَهَا وَيُضْعِفُونَهَا وَيُذِلُّونَهَا؟ ! وَكَيْفَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْهَلَاكِ، وَيُعَرِّضُ الْمُتَمَوِّلُ مِنْهُمْ مَالَهُ لِلزَّوَالِ لِتَأْيِيدِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، عَلَى فَرْضِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ؟ كُلُّ ذَلِكَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَصِ وَسَائِرِ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا كَوَعِيدِ الدُّنْيَا وَوَعْدِهَا وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَغَيْرِ الْمُكَرَّرِ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِإِيضَاحِ الْحَقَائِقِ أَوْ لِلْعِبْرَةِ فِي سُوَرِ النَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِنَّ أَنَّ مَوْضُوعَهَا وَقَائِعُ بَشَرِيَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ لَهَا رِوَايَاتٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي جُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُدَوَّنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَعْضُهَا مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْعَرَبِ كَأَخْبَارِ عَادٍ وَثَمُودَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute