للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ دَعْوَى الْقَدَاسَةِ وَالْوَسَاطَةِ عِنْدَ اللهِ، وَدَعْوَى التَّشْرِيعِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ، أَوِ السُّلْطَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهِيَ سُلْطَةُ الْمُلْكِ وَالِاسْتِبْدَادِ، فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى تَهْبِطُ بِالْبَشَرِ إِلَى دَرَكَةِ الْحَيَوَانِ الْمُسَخَّرِ أَوِ الزَّرْعِ الْمُسْتَنْبَتِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْمَلَائِكَةِ يُعَلِّمُ الْإِنْسَانَ أَنَّ لَهُ حَيَاةً فِي عَالَمٍ غَيْبِيٍّ أَعْلَى مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ سَعْيُهُ وَعَمَلُهُ لِأَجْلِ خِدْمَةِ هَذَا الْجَسَدِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ لَا يُبَالِي إِلَّا بِالْأُمُورِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدًا ذَلِيلًا لِبَشَرٍ مِثْلِهِ لِلَقَبٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ وَقَدْ أَعَزَّهُ اللهُ بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا أَئِمَّةُ الدِّينِ عِنْدَهُ مُبَلِّغُونَ لِمَا شَرَعَ اللهُ، وَأَئِمَّةُ الدُّنْيَا مُنَفِّذُونَ لِأَحْكَامِ اللهِ، وَإِنَّمَا الْخُضُوعُ الدِّينِيُّ لِلَّهِ وَلِشَرْعِهِ لَا لِشُخُوصِهِمْ وَأَلْقَابِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ أَصْلٌ لِلْإِيمَانِ بِالْوَحْيِ ; لِأَنَّ مَلَكَ الْوَحْيِ رُوحٌ عَاقِلٌ عَالِمٌ يَفِيضُ الْعِلْمَ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى رُوحِ النَّبِيِّ بِمَا هُوَ مَوْضُوعُ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى ذِكْرِ الْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يُؤْتُونَ النَّبِيِّينَ الْكِتَابَ (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مَنْ كُلِّ أَمْرٍ) (٩٧: ٤) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢٦: ١٩٣ - ١٩٥) فَيَلْزَمُ مِنْ إِنْكَارِ الْمَلَائِكَةِ إِنْكَارُ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَإِنْكَارُ الْأَرْوَاحِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَنْ أَنْكَرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ يَكُونُ أَكْبَرُ هَمِّهِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَحُظُوظَهَا، وَذَلِكَ أَصْلٌ لِشَقَاءِ الدُّنْيَا قَبْلَ شَقَاءِ الْآخِرَةِ. وَالْمَلَائِكَةُ: خَلْقٌ رُوحَانِيٌّ عَاقِلٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَهُمْ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهِمْ - كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.

وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْكِتَابِ عَلَى الْكُتُبِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَوْ صَحَّ إِيمَانُهُمْ بِكِتَابِهِمْ وَأَذْعَنُوا لَهُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ هِدَايَةٌ لَهُمْ، وَإِنْ جَهِلُوا وَحْدَةَ الدِّينِ فَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيَّةَ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُهُ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ

يُؤْمِنُوا حَقَّ الْإِيمَانِ بِكِتَابِهِمْ إِذْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ إِيمَانُهُمْ صَحِيحًا لَقَارَنَهُ الْإِذْعَانُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّقْلِيدِ كَانُوا كَمَنْ نَزَلْ فِيهِمْ (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمِنًا قُلْ لَمْ تُؤَمِّنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٤٩: ١٤، ١٥) فَهَذَا الْإِيمَانُ الَّذِي حَصَرَ اللهُ الصِّدْقَ فِي أَصْحَابِهِ كَانَ قَدْ فُقِدَ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ حَالُ مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَإِنَّ الَّذِي تَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ صَارَ نَادِرًا جِدًّا وَلِذَلِكَ حُرِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ، وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ يَعُودَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى التَّخَلُّقِ بِمَا مَيَّزَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ، فَالْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ

<<  <  ج: ص:  >  >>