للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ قَبِيحٌ ضَارٌّ لَا تَتَوَجَّهُ إِرَادَتُهُ إِلَى إِتْيَانِهِ، وَالْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ حَسَنٌ نَافِعٌ لَا بُدَّ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ.

فَمَا بَالُ مُدَّعِي الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ حَتَّى صَارُوا يَعُدُّونَ حِفْظَهُ وَقِرَاءَتَهُ مِنْ مَوَانِعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، فَكَانَ مِنْ قَوَانِينِهِمْ أَنَّ حَافِظَ الْقُرْآنِ لَا يُطَالَبُ بِتَعَلُّمِ فُنُونِ الْحَرْبِ وَالْجِهَادِ ; لِأَنَّهُ حَافِظٌ، وَصَارَ حَمَلَةُ الْكِتَابِ لَا يُطَالَبُونَ بِبَذْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِذَا مَا طُولِبَ أَحَدُهُمْ بِبَذْلِ شَيْءٍ لِإِعَانَةِ الْمَنْكُوبِينَ أَوْ لِبِنَاءِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوِ الْحُفَّاظِ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، بَخِلَ الْقُرَّاءُ وَالْمُتَفَقِّهَةُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى فَجَازَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بُخْلِهِمْ، وَوَفَّاهُمْ مَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى سُوءِ ظَنِّهِمْ بِرَبِّهِمْ، حَتَّى صَارُوا فِي الْغَالِبِ أَذَلَّ النَّاسِ ; لِأَنَّهُمْ عَالَةٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ.

وَالْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ يَقْتَضِي الِاهْتِدَاءَ بِهَدْيِهِمْ، وَالتَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَالتَّأَدُّبَ بِآدَابِهِمْ، وَيَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى مَعْرِفَةِ سِيرَتِهِمْ وَالْعِلْمِ بِسُنَّتِهِمْ. وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِمْ مَنْ رَغِبُوا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَلَا عُذْرَ بِمَا يَزْعُمُونَ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ السُّنَّةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ ; فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاقْتِدَاءِ بِشَخْصٍ إِلَّا

الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَإِنَّمَا طَرِيقَةُ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ الْبَحْثُ عَنِ السُّنَّةِ وَتَقْدِيمُهَا بَعْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ هِدَايَةٍ وَإِرْشَادٍ، وَلَا يُغْنِي عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولَهُ شَيْءٌ أَبَدًا، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (٣٣: ٢١) فَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ فَقَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ لَا يَنْفَعُهُ هَذَا الْإِيمَانُ إِلَّا بِهَذَا التَّأَسِّي، عَلَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَئِمَّةِ يَقْضِي عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنْ يَعْرِفَ سِيرَتَهُمْ وَطَرِيقَةَ أَخْذِهِمْ عَنْ رَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ وَأُصُولَ اسْتِدْلَالِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدُونَ لَا يَعْرِفُونَ ; بَلْ يَنْدُرُ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَلَامَ مَنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَهُ وَتَقْلِيدَهُ، بَلْ جَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَئِمَّتِهِمْ عِدَّةَ وَسَائِطَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ فَهُمْ يُقَلِّدُونَهُمْ دُونَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِمُرَادِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَهُنَاكَ قَوْمٌ غَشِيَهُمُ الْجَهْلٌ فَغَشَّهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إِيمَانًا بِالرَّسُولِ وَحُبًّا لَهُ بِمَا يَصِيحُونَ بِهِ فِي قِرَاءَةِ كُتُبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَالدَّلَائِلِ وَأَمْثَالِهَا، أَوِ الْمَدَائِحِ الشِّعْرِيَّةِ، وَهُمْ أَجْهَلُ النَّاسِ بِأَخْلَاقِهِ الْعَظِيمَةِ، وَسُنَّتِهِ السَّنِّيَّةِ، وَسِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَأَشَدُّهُمْ نُفُورًا عَنِ التَّأَسِّي بِهِ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ، أَوْ نُهُوا عَنِ الْبِدَعِ فِي دِينِهِ وَالزِّيَادَةِ فِي شَرِيعَتِهِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنَ الَّذِينَ وَرَدَ الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّهُمْ يَرِدُونَ عَلَيْهِ الْحَوْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُذَادُونَ ; أَيْ: يُطْرَدُونَ دُونَهُ فَيَقُولُ: ((أُمَّتِي)) فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَيَقُولُ: ((سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي))

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ أُصُولَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ ثَمَرَتُهُ، وَبَدَأَ بِأَقْوَاهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>