للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَّا كَلِمَاتٌ مُجْمَلَةٌ وَجِيزَةٌ ذُكِرَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ لَا يُقْصَدُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي لُغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَمَوْقِعِهَا مِنَ الْعِبْرَةِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمُ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ مِثْلَهُ كُلٌّ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُمَا يَعْتَمِدَانِ عَلَى الْمَأْثُورِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ.

(٢) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ الْحَنَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٣٧٠ هـ فِي تَفْسِيرِهِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) : وَالرُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ: هُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ وَالْمَحَبَّةُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ مُجَالَسَةِ الظَّالِمِينَ وَمُؤَانَسَتِهِمْ وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: - فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - ٦: ٦٨ انْتَهَى. وَقَدْ أَبْعَدَ كُلَّ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَقِيهٌ لَا لُغَوِيٌّ وَلَا مُفَسِّرٌ عَامٌّ.

(٣) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٥٢٨ هـ فِي كَشَّافِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْآيَةِ: وَالنَّهْيُ مُتَنَاوِلٌ لِلِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِمْ، وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَزِيَارَتِهِمْ وَمُدَاهَنَتِهِمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ، وَمَدِّ الْعَيْنِ إِلَى زَهْرَتِهِمْ، وَذِكْرِهِمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: - وَلَا تَرْكَنُوا - فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ، وَقَوْلُهُ: - إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - أَيْ إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى الظَّالِمِينَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَذَكَرَ بَعْدَهُ حِكَايَةَ صَلَاةِ الْمُوَفَّقِ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي قَرَأَ الْآيَةَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَتْ، وَمَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَعَظَهَا لِلزُّهْرِيِّ أَحَدُ إِخْوَانِهِ مِنْ عُبَّادِ السَّلَفِ وَزُهَّادِهِمْ.

أَقُولُ: كُلُّ مَا أَدْغَمَهُ فِي النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ اجْتِرَاحُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ لَوَازِمَ الرُّكُونِ الْحَقِيرَةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ مُرَادًا مِنْهَا وَالْمُخَاطَبُ الْأَوَّلُ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ

إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِيمَانِ مَعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَظَنَّةَ الِانْقِطَاعِ لِظَلَمَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا زِيَارَتُهُمْ وَمُصَاحَبَتُهُمْ وَمُجَالَسَتُهُمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْعَادَاتِ فَلَمْ يَكُونُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ، بَلْ كَانَ زِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَزِيُّهُمْ وَاحِدًا وَعَادَاتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَاحِدَةً، إِلَّا مَا كَانَ قَبِيحًا نَهَى عَنْهُ الْإِسْلَامُ، وَكَانَتْ صِلَةُ الرَّحِمِ مَعَهُمْ مَشْرُوعَةً زَادَهَا الْإِسْلَامُ تَأْكِيدًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ فَضَائِلِ الْمُعَاشَرَةِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ضُعَفَاءَ فِي مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ أَقْوِيَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَازِمًا عَلَى الزَّحْفِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ الْفَصْلُ فِيهَا فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَبَرُّوهُمْ وَيُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَنْهَاهُمْ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ فِي الدِّينِ. . . . أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ وَيَنْصُرُوهُمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>