الْفَجْرُ الْكَاذِبُ الَّذِي يَظْهَرُ كَذَنَبِ السَّرْحَانِ (الذِّئْبِ) ثُمَّ اسْتَطَارَتُهُ - مُعْتَرِضًا - الَّتِي حَدَّدُوا بِهَا الْفَجْرَ الصَّادِقَ ; فَإِنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الرَّاصِدُ الْمُرَاقِبُ لِلْأُفُقِ دُونَ الْجُمْهُورِ الَّذِي خَاطَبَهُ رَبُّهُ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) إِلَخْ فَجَعَلَ لَهُمْ بَدْءَ صِيَامِهِمْ وَقْتًا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْمُتَنَبِّي بِقَوْلِهِ:
وَهَبْنِي قُلْتُ هَذَا الصُّبْحُ لَيْلٌ ... أَيَعْمَى الْعَالِمُونَ عَنِ الضِّيَاءِ؟
وَقَوْلُهُ:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ
وَلَكِنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ أَنْ يَمِيلَ بَعْضُ أَفْرَادِهِمْ بِطَبْعِهِ إِلَى التَّشَدُّدِ وَالتَّنَطُّعِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَيَكُونُ الْأَكْثَرُونَ فِي الْوَسَطِ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّشْرِيعِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي تَحْدِيدِ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي الصِّيَامِ، هَلْ هُوَ أَوَّلُ مَا يُسَمَّى الْفَجْرُ الصَّادِقُ أَوْ تَبَيُّنُ بَيَاضِ النَّهَارِ لِلنَّاسِ مِنْهُ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ الْمُبِيحَيْنِ لِلْفِطْرِ. وَالْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ: أَنَّ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ
الْعَامَّةَ كُلُّهَا يُسْرٌ لَا عُسْرَ وَلَا حَرَجَ فِيهَا، وَلَا فِي مَعْرِفَتِهَا وَثُبُوتِهَا وَحُدُودِهَا، وَأَنَّهَا وَسَطٌ بَيْنَ إِفْرَاطِ الْغُلَاةِ الْمُشَدِّدِينَ، وَتَفْرِيطُ الْمُتْرَفِينَ الْمُتَسَاهِلِينَ، وَمِنْ مُبَالَغَةِ الْخَلَفِ فِي تَحْدِيدِ الظَّوَاهِرِ مَعَ التَّفْرِيطِ فِي إِصْلَاحِ الْبَاطِنِ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَنَّهُمْ حَدَّدُوا أَوَّلَ الْفَجْرِ وَضَبَطُوهُ بِالدَّقَائِقِ وَزَادُوا عَلَيْهِ فِي الصِّيَامِ إِمْسَاكَ عِشْرِينَ دَقِيقَةً قَبْلَهُ لِلِاحْتِيَاطِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ تَبَيُّنَ بَيَاضِ النَّهَارِ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ إِلَّا بَعْدَهُ بِعِشْرِينَ دَقِيقَةً تَقْرِيبًا، وَأَمَّا وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ عَلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ التَّامِّ خَمْسَ دَقَائِقَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَيَشْتَرِطُ بَعْضُ الشِّيعَةِ فِيهِ ظُهُورَ بَعْضِ النُّجُومِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنِ اعْتِدَاءِ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ اجْتِهَادٌ لَا تَعَمُّدَ، وَالثَّابِتُ فِي السُّنَّةِ نَدْبُ تَعْجِيلِ الْفُطُورِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ وَقْتَ بَدْءِ الصِّيَامِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَأَخْذُ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِيهِ بِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ الْمُتَّبَعَةِ أَضْبُطُ وَأَحْوَطُ وَأَوْفَى بِحَاجَةِ سُكَّانِ الْأَمْصَارِ، بَيْدَ أَنَّهُ يَجِبُ إِعْلَامُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّرُوسِ الدِّينِيَّةِ وَخُطَبِ الْجُمُعَةِ وَفِي الصُّحُفِ الْمُنَشَّرَةِ أَيْضًا بِأَنَّ وَقْتَ الْإِمْسَاكِ الَّذِي يَرَوْنَهُ فِي التَّقَاوِيمِ (النَّتَائِجِ) وَالصُّحُفِ إِنَّمَا وُضِعَ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ إِلَى قُرْبِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ بَدْءُ الصِّيَامِ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ لِيَتَعَجَّلَ الْمُتَأَخِّرُ فِي سُحُورِهِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ بِإِتْمَامِهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنَّ مَنْ أَكَلَ وَشَرِبَ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ صَلَاتُهُ، وَلَوْ بِدَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ صِيَامَهُ صَحِيحٌ، وَأَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ ظَانًّا بَقَاءَ اللَّيْلِ فَظَهَرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ صِيَامُهُ، وَلَكِنْ يَتَأَكَّدُ الِاحْتِيَاطُ فِي مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ لِيَتَيَسَّرَ التَّغْلِيسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute