للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِثْلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الْحَادِثِ أَعْضَاءٌ وَحَرَكَاتُ أَعْضَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الْحَادِثِ انْفِعَالَاتٌ نَفْسِيَّةٌ كَالْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ، فَالسَّلَفُ يُجْرُونَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنِ انْفِعَالَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِشَأْنِهِ لَيْسَتِ انْفِعَالًا نَفْسِيًّا كَمَحَبَّةِ النَّاسِ. وَالْخَلَفُ يُؤَوِّلُونَ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ فَيُرْجِعُونَهُ إِلَى الْقُدْرَةِ أَوْ إِلَى الْإِرَادَةِ فَيَقُولُونَ: الرَّحْمَةُ هِيَ الْإِحْسَانُ بِالْفِعْلِ أَوْ إِرَادَةُ الْإِحْسَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّي هَذَا تَأْوِيلًا بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ تَدُلُّ عَلَى الِانْفِعَالِ الَّذِي هُوَ رِقَّةُ الْقَلْبِ الْمَخْصُوصَةُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الِانْفِعَالُ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى الْبَارِئِ - تَعَالَى - يُرَادُ بِهَا غَايَتُهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ مَبَادِيهَا الَّتِي هِيَ انْفِعَالَاتٌ.

وَإِنَّمَا يَرُدُّونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَكَذَا الْعِلْمُ عَلَى صِفَاتِ اللهِ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ لَا مَجَازِيٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْجَمِيعَ مَا أُطْلِقَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - فَهُوَ مَنْقُولٌ مِمَّا أُطْلِقَ عَلَى الْبَشَرِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْبَشَرِ تَعَيَّنَ أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ النُّصُوصِ فَنَقُولَ: إِنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - قُدْرَةٌ حَقِيقَةٌ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كَقُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِنَّ لَهُ رَحْمَةً لَيْسَتْ كَرَحْمَةِ الْبَشَرِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي جَمِيعِ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ، وَلَا نَدَّعِي

أَنَّ إِطْلَاقَ بَعْضِهَا حَقِيقِيٌّ وَإِطْلَاقَ الْبَعْضِ الْآخَرِ مَجَازِيٌّ، فَكَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ وَلَا يُجْهَلُ أَثَرُهُ كَذَلِكَ الرَّحْمَةُ شَأْنٌ مَنْ شُئُونِهِ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ وَلَا يَخْفَى أَثَرُهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا يُفْهَمُ لَهَا مَعْنًى بِالْمَرَّةِ، وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ كَرَحْمَةِ الْإِنْسَانِ وَيَدَهُ كَيَدِهِ، وَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ فِي الْحَنَابِلَةِ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ، وَمُحَقِّقُو الصُّوفِيَّةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يَجْعَلُونَ بَعْضَهَا مُحْكَمًا إِطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ حَقِيقِيٌّ، وَبَعْضَهَا مُتَشَابِهًا إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مَجَازِيٌّ، بَلْ كُلُّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - فَهُوَ مَجَازٌ.

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ مِنَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ كَلَامٍ: " وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ - تَعَالَى - حَقِيقَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَجَازٍ ; إِذًا الْمَحَبَّةُ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُوَافِقِ، وَالْعِشْقُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَيْلِ الْغَالِبِ الْمُفْرِطِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْسَانَ مُوَافِقٌ لِلنَّفْسِ، وَالْجِمَالَ مُوَافِقٌ أَيْضًا، وَأَنَّ الْجَمَالَ وَالْإِحْسَانَ تَارَةً يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَتَارَةً يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ، وَالْحُبُّ يَتْبَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُخَصُّ بِالْبَصَرِ، فَأَمَّا حُبُّ اللهِ لِلْعَبْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا، حَتَّى إِنَّ اسْمَ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ الْأَسْمَاءِ اشْتِرَاكًا لَا يَشْمَلُ الْخَالِقَ وَالْخَلْقَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، بَلْ كُلُّ مَا سِوَى اللهِ - تَعَالَى - فَوُجُودُهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ وُجُودِ اللهِ

-

<<  <  ج: ص:  >  >>