التي مثلت الثقافة الوسطى بين اليونانية القديمة واللاتينية الحديثة يومذاك.
ولما أرادت معظم دول الغرب عقد الصلات السياسية بدول الشرق والاغتراف من تراثه والانتفاع بثرائه والتزاحم على استعماره أحسنت كل دولة إلى مستشرقيها فضمهم ملوكها إلى حاشياتهم أمناء أسرار وتراجمة، وانتدبوهم للعمل في سلكي الجيش والدبلوماسية إلى بلدان الشرق، وولوهم كراسي اللغات الشرقية في كبري الجامعات والمدارس الخاصة والمكتبات العامة والمطابع الوطنية، وأجزلوا عطاءهم في الحل والترحال، ومنحوهم ألقاب الشرف وعضوية المجامع العلمية.
ولكن من يراجع تراجم هؤلاء، في هذا الكتاب، يجدهم أقلية، وهي وإن لم تندثر حتى اليوم، فإنها لا تسلك في سلك غالبية المستشرقين التي اتخذت الاستشراق علماً قائماً بذاته، وجوزيت عليه بما جزى العلماء قديماً من ضر في أكثر الأحيان: فيخائيل سكوت نالته ريبة من ترجمته ابن رشد. وروجر بيكون سجن باعتماده على الفلسفة الشرقية. وبوستل، وكان أعلم مستشرق في عصره يجله الملوك والأمراء، اعتقل في سبيله. وسيمون أوكلى انقطع لتدريس العربية في كمبريدج انقطاعاً - عاد عليه وعلى أسرته بالإفلاس والسجن حيث أتم الجزء الثاني من كتابه تاريخ المسلمين ولى سترانج كف بصره فيه ولم ينقطع عنه. والأمير كايتاني أنفق ثروته الطائلة عليه - عشرة آلاف جنيه ذهباً في السنة - وأفلس من بعده. وفرينل لقي مصرعه في التنقيب عن الآثار فيما بين النهرين. وزتسن ذهب ضحيته، بعد أن كشف عن آثار اليمن. ذهاب بالمر - ناشر ديوان البهاء زهير متن وترجمة شعرية بالإنجليزية - وقد قتل في عودته من سيناء.
والمستشرقون، عامة، كما مر بنا، مهوون الاستشراق ثم يتخذونه مهنة كأي المهن الحرة، في معاهده ومكتباته ومتاحفه ومطابعه ودور نشره ومجلاته، إلا ذوي اليسار مهم، أو الذين ضاقت مؤسساته عنهم فطلبوا الرزق من سبل غيرها، دون أن ينصرف أحدهم عن التحقيق والترجمة والتصنيف في تراثنا الذي أمسي من تاريخ العلوم والآداب والفنون، لا مطمع لدولهم فيه أو إقبال المواطنيهم عليه أو مسايرة لعصره له بعد تفجير النواة وجائزة نوبل وما استحدث من فنون، فلا ثراء للمهنة ولا أمل لصاحبها في ثراء.