فلما قامت الخلافة العباسية (٧٥٠ - ١٢٥٨) على أنقاض الدولة الأموية، بفضل الشعوبية، وعلى رأسها الفرس. وأصبحت أمهات الخلفاء العباسيين السبعة والثلاثين، إلا ثلاثة منهم، جواري نقلوا عاصمتها من دمشق إلى بغداد أقرب الأمصار إلى فارس فاصطبغوا بصبغتها في: نظام الحكم وتوارثه، وترتيب الخاصة والعامة، وأبهة الملابس والمحافل والمجالس. وولوا الفرس الوزارة والكتابة والحجابة والقيادة، واستعانوا بالعناصر السريانية والفارسية والهندية والتركية واليونانية في إقامة الدولة - وكان الفتح قد انتهى أو كاد، واتسع العمران وتشعبت الفرق وأطلقت الحرية الدينية - على أساس من الفنون والآداب والعلوم: فأنشأ المنصور مدرسة للطب وقرب علماء الفلك واقتني الكتب من القسطنطينية وشجع على الترجمة. واقتدى بالمنصور خلفاؤه، ما عدا المادي والمهدي، فشيد الرشيد البيمارستان الكبير في بغداد على النمط الفارسي وأمر بنقل كتب العلوم على اختلافها، وقام أول مصنع للورق في بغداد (٧٩٤) واتخذ المأمون بطانته من علماء اليونان والسريان والفرس، وبعث في طلب الأسفار العبرية واليونانية والفارسية من أرمينيا وسوريا ومصر. وسأل أباطرة القسطنطينية إعارته ليو الأرمني، وكان مشهوراً بالرياضيات، مقابل صلح دائم وألفي دينار، ثم جعل من شرائط صلحه معهم تزويده بمجموعة من الكتب النادرة. وأنشأ داراً الحكمة فانتقل إليها علماء حران والرها وجند يسابور، ونقلوا إليها ما امتاز به التراث الإنساني في مدارس اليونان والرومان والشرق الأدنى وشمال أفريقيا فورثتها بغداد جميعاً. ثم ابتني المراصد (١) وتشبه به الأمراء والعلماء في جميع بقاع الإسلام، واشتهرت فيها أزياجهم.
وقد شجع العباسيون على نقل ذلك التراث من متعدد اللغات إلى العربية والتصنيف فيه والإبداع منه ومن استجاب لدعوتهم:
(أ) نصارى السريان، ولم يكونوا بغرباء عنه أو دخلاء عليه، لأنهم توارثوه من علماء الشرق الأدنى وفيهم أسلافهم الذين تعاونوا مع اليونان والرومان على إرساء
(١) ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار ج ١، ص ٢١ - ٢٢.