ولو أن أحدهم انصرف، طوال حياته، إلى حل الكلمات المتعارضة، أو جمع طوابع البريد النادرة، أو كتابة القصص البوليسي، بدل التحقيق والترجمة والتصنيف، لخرجت به من تلك الجزائر المتعددة التي يعيش فيها المستشرقون إلى العالم الرحب، في القرن العشرين، وأعادت عليه برخاء من العيش وشهرة بين الناس وسلامة من النقاد.
ولقد شاهدنا وسائلهم فيه من إقامة معاهد ومكتبات ومتاحف ومطابع ودور نشر ومؤتمرات وبعثات، وما خصت به كلها من هبات الأفراد ٢٠٠ ألف دولار على كرسي العربية في جامعة هارفارد. ومساعدات المؤسسات: ٣٥ مليون دولار من كارنيجي. وميزانيات الحكومات: ولا سبيل إلى تقديرها فألفيناها لا تقل شأنا عما لدينا منها. ولو أراد المستشرقون منها غير العلم لأحالوها إلى فنادق وملاه ومساكن ومتاجر فدرت عليهم، منذ مئات السنين بالملايين، ولو تركوا إلينا أمرها في الغرب الاستنفدت منا ثروات طائلة - فقد سعت بعض الدول العربية إلى إنشاء كرسي للعربية في جامعة سيدني باستراليا فحالت نفقاته الخمسة عشر ألف جنيه بينها وبينه. ولو لم ينفقوا على بعثاتهم في الشرق لما كان من سبيل إلى الكشف عن معظم كنوزه.
كما وازنا بين عنايتهم بتراثنا واكتشافه وصونه وتحقيقه وبين ما قمنا نحن به في سبيله فرأيناها تكاد تكون متساوية، ووازنا كذلك بين ترجمة أحدهم وآثاره وبين ترجمة أحد أعلامنا وآثاره فوجدناه يضاهيه خلقاً علمياً وعدد كتب، وألا غنى لنا عن معظمها في علومنا وآدابنا وفنوننا، ولا سبيل إلى جحد فضلها في فتح عيون الشرقيين والغربيين على ما في تراثنا من ثراء، ثم على نهضتنا الحديثة التي كانوا من دعائهما.
ولو سعينا إلى تحقيق تراثنا وترجمته والتصنيف فيه ونشره بشتى اللغات، منذ ألف عام، وفي كل مكان، لاحتجنا إلى استئجار مواهب مئات العلماء ومناهجهم ومعارفهم ودقهم وجلدهم طوال حياتهم.
وفي ذلك من العسر علينا ما فيه ومن النفقات عليه - وقد سحرت الكلمة المترجمة بما فيها حروف الجر والعطف والني بثلاثة مليات ومراجعتها بمليم - ما يستنفذ طائل الثروات.
أما ونحن لم نفعل، وعرفنا الجزاء الذي لقيه ويلقاه المستشرقون في بلدانهم، فكيف جزيناهم عليه؟