لم يكن موقف كتابنا من الاستشراق واحدة ولا مجمعة عليه ولا مطرداً فيه، بل مشتتاً متناقضاً مضطرباً يدحض بعضه البعض الآخر.
فأحمد فارس الشدياق جعلهم ضرراً وبلاء لا نفع منهم ولا دفع:"إن هؤلاء الأساتيذ لم يأخذوا العلم عن شيوخه ... وإنما تطفلوا عليه تطفلاً، وتوثبوا توثباً، ومن تخرج فيه بشيء فإنما تخرج على القسس ... ثم أدخل رأسه في أضغاث أحلام أو أدخل أضغاث أحلام في رأسه وتوهم أنه يعرف شيئا وهو يجهله. وكل منهم إذا درس في إحدى لغات الشرق أو ترجم شيئاً منها تراه يخبط فيها خبط عشواء. فما اشتبه عليه منها رقعه من عنده بما شاء، وما كان بين الشبهة واليقين، حدس فيه وخمن، فرجح المرجوح وفضل المفضول"(١).
والغريب في الأمر أن الشدياق أدرك الاستشراق، وهو في ذروة من العلمانية أبعد ما تكون من القسس، وقد أشرف بنفسه على تصحيح منشوارت المطبعة الإنجليزية العربية في مالطة، والتوراة في لندن، وصنف مع بادجر المحاورة الأنسية (مالطة ١٨٤٠) وترجم ديجا قصيدته في باي تونس، وصنف معه، في باريس: سند الراوي في الصرف الفرنساوي، للطلاب العرب، وصنف هو: الاكورة الشهية في نحو اللغة الإنجليزية، والمقالة البخشيشية (نشرها أرنو متن وترجمة، الجزائر ١٨٩٣).
والأمير شكيب ارسلان ينطلق من التخصيص في تمييز الشعر المصنوع إلى التعميم في عداوة الغربي للشرقي: "وعلى كل الأحوال لا يقدر أحد أن يقول إن الشرقيين ليسوا أدري من الغربيين في آداب الشرقيين، ولغات الشرقيين ... وإن من أحمق الحمق أن نظن أن مرجليوث بكونه أفرنجياً، صار يميّز الشعر المصنوع على لسان الجاهلية من الشعر الجاهلى الأصلي ... وأما هؤلاء المستشرقون المتنطعون- ولا يطلق هذا إلا على نزر منهم - فإذا عثروا على حكاية شاردة، أو نكتة فاردة، في زاوية كتاب قد يكون محرفة، سقطوا عليها تهافت الذباب على الحلواء، وجعلوها معيارة ومقياسا، لا بل صيروها محكما يعرضون عليها سائر الحوادث ويغفلون