واختلفت علينا فيها الأقاويل، وأحببنا أن نعرفها على حقيقة وتحصيل، فتعرفنا الصحيح من ذلك. قال جدي: وأعطاني أبو محمد الكتاب، وقال لي: امض إلى الأمير معز الدولة فأعرضه عليه واستأذنه فيه، ففعلت. فقال له الأمير: استعلم ذلك وعرفنيه؛ فتقدم أبو محمد المهلبي إلى أبي الحسن البازعجي، وهو صاحب المعونة، بعد المساجد والحمامات. قال جدي: فأما المساجد فلا أذكر ما قيل فيها كثرة، وأما الحمامات فكانت بضعة عشر ألف حمام. وعدت إلى معز الدولة وعرفته ذلك، فقال: اكتبوا في الحمامات أنها أربعة آلاف، واستدللنا من قوله على إشفاقه وحسده أباه على بلد هذا عظمه وكبره. وأخذ أبو محمد وأخذنا نتعجب من كون الحمامات هذا القدر، وقد أحصيت في أيام المقتدر بالله فكانت سبعة وعشرين ألف حمام، وليس بين الوقتين من التباعد ما يقتضي هذا التفاوت. قال هلال: وقيل: إنها كانت في أيام عضد الدولة خمسة آلاف حمام وكسرا.
قلت: لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميز خواصها وعوامها، وعظم أقطارها وسعة أطرارها، وكثرة دورها ومنازلها، ودروبها وشوارعها، ومحالها، وأسواقها، وسككها، وأزقتها، ومساجدها، وحماماتها، وطررها، وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها وأفيائها، واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها، وزيادة ما حصر من عدة سكانها. وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد، إذ الدنيا قارة المضاجع، دارة المراضع، خصيبة المراتع، موردة المشارع. ثم حدثت بها الفتن، وتتابعت على أهلها