فرفع رأسه وقال استأذن لي على رسول الله، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله بضرب عنقها لأضربنّ عنقها!! فأشار إليه الغلام: أن أذن لك، فدخل على رسول الله، وما زال يلاطفه حتى تبسم، ثم نظر عمر في المشربة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير قد أثر في جنبيه، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، وفيها قرظ مجموع وأهب «١» معلقة وفرق من شعير، فبكى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما يبكيك يا عمر» ؟! فذكر عمر كسرى وقيصر وما هما فيه من ألوان النعيم وما رأى في المشربة، أي- والله- عمر الزاهد يبكي لما رأى النبي في هذه الحالة، ولو أن البكاء كان من غير عمر لجاز، أما وهو من عمر فهذا موضع العبرة والعجب!!.
ترى أيها القارىء ماذا سيكون جواب الرسول؟! وماذا سيكون حال الرسول؟ أيبكي، كما بكى عمر الزاهد، أم يسكت على مضض وضجر؟! لو أن النبي فعل هذا وشارك عمر في بكائه أو سكت وتحسر، لكان قصارى أمره أنه عبقري، أو أنه رجل مصلح، ولكنه فوق ذلك: فوق العبقري وفوق المصلح، إنه النبي بكل ما في «أل» من كمال النبوة الذي بلغت به الذروة في الفضيلة الإنسانية، وإليك جواب النبوة الكاملة:«يا عمر، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الاخرة؟! أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» !!.
ويقف الزاهد المتقشف مدهوشا أمام هذا الجواب فيزداد يقينا إلى يقين أنه النبي حقا، بعد أن أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم درسا في زهد البطولة، أو إن شئت فقل بطولة الزاهد.
(١) القرظ: ما يدبغ به الجلد، أهب بضم الهمزة والهاء وبفتحها جمع إهاب: وهو الجلد.